صدرت “الغد” قبل أربع سنوات في مرحلة ملتبسة من عمر الصحافة الأردنية والعربية. فلا هي في مطلع التسعينيات يوم صدر قانون مطبوعات غير مسبوق عربيا كسر احتكار الدولة لوسائل الإعلام وسمح بتملك القطاع الخاص وخفف القيود.. ولا هي في خواتيم التسعينيات يوم صدر قانون المطبوعات سيئ الذكر الذي أوقفته محكمة العدل العليا. ميلادها جمع بين نقيضين مزاج محلي رسمي ينتمي لزمن شاعر القبيلة الذي يفاخر بمحاسنها ويضخم منجزاتها وعينه كليلة عن كل عيب، وتطور كوني تجاوز كل ما هو رسمي حدودا وقوانين وتعليمات.
راهنت “الغد” على التطور وحاولت ما استطاعت أن تفلت من مزاج شاعر القبيلة؛ حيلة ومناورة مرة، تحديا ومواجهة حينا، هدنة وتواطؤا ورفع راية بيضاء عند العجز. يدرك القارئ الطريق الوعرة التي تسير فيها الصحيفة الفتية، وكم كنت أستغرب من قراءة القارئ لـ”الممحي” ومعرفته بحدود المناورة. فالقارئ تجاوز بفضل التطور الكوني إعلام القبيلة، فالفضاء يحفل بالنجوم التي تقدم له خيارات يحار في التقلب بينها أخبارا وسياسة وترفيها. وشبكة العنكبوت تسللت وهتكت كل مستور.
ساهمت “الغد” في إضعاف “صحافة السلطة” وقوَّت “سلطة الصحافة” في “غدنا” نفتخر بجيل من الصحافيين والكتّاب، يفرحون بسبقهم وموقفهم لا بعطايا وهدايا ودعوات. انتهى -على الأقل بنظرهم- زمن المخصصات والمغلفات والمآدب. عشت زمنا كان يتهافت صحافي على تلقي دعوة يتلقى فيها تعليمات، وآخر لا ينتظر مغلفا بل يستجديه ويعاتب إن تأخر أو نقص. انتهى زمان كهذا في “الغد”، وتجد فيها من يمد رجله ولا يمد يده.
شارك كثيرون في نجاح التجربة، ولا يتسع المقام لذكرهم وقد تخون الذاكرة وتنسي بعضهم. هنا أذكر اثنين غادرا؛ باسل رفايعة. مدير تحرير المحليات الذي أسس وأدار أخطر أقسام الجريدة ومن أعطاها لونها المميز. لم يبحث باسل عن صحافيين يبنون له جسورا مع أصحاب المصالح والنفوذ. بل حاول تجنيد مقاتلين يخوضون المعارك بلا وجل. وفي “مرايا” كان الـ”مراقب” باسل رفايعة يترصد تصريحات المسؤولين ويكشف بروح نقدية كم فيها من تناقض وتلاعب وتذاكي. غادر باسل في أوج “الغد”، بعد أن ضاقت به عمان وأهلها الكرام، لتغويه دبي مديرا عاما لتحرير “الإمارات اليوم” ويؤسسها على ذات قواعد “الغد” مهنة وخلقا.
وباتجاه باسل، إلى أبو ظبي غادر أيمن الصفدي “محررا مسؤولا” في الاتحاد. والمغادران يعبران عن روح “الغد”. فباسل عدو السلطة سواء كانت دولة أم مجتمعا نافرا منها مهما تزينت. أيمن هو ابن المؤسسة عمل في الصحافة على تنوعها جريدة الحياة والجوردان تايمز والتلفزيون الأردني وفضائية الجزيرة صحافيا ومحررا ومديرا, وتقلب في المناصب الرسمية في إعلام ولي العهد السابق ومديرا لإعلام الديوان الملكي وناطقا باسم الأمم المتحدة في العراق. وتمكن من الحفاظ على توازن دقيق وظل رجل الصحافة في السلطة ورجل السلطة في الصحافة. وتمكن من استنفاد الهامش المتاح بما لا يميت الذئب ولا يفني الغنم. في أكثر المحطات وعورة نشرت “الغد” مختلف وجهات النظر ولم تتحول طبلا ولا بوقا. أجاز أيمن أكثر مقالاتي جرأة ما خص الانتخابات البلدية والنيابية، والمواجهات مع الحركة الإسلامية والعلاقة مع حماس وغيرها. تماما كما أجاز كثيرا من مرايا باسل.
في هجرة باسل وأيمن دليل على جودة منتج “الغد” الصحافي الذي تبحث عنه أسواق الصادرات. وهو منتج تتكامل فيه جهود أجيال “الغد” والعاملين فيها من الموزع الذي يوصلها مبكرا ويودعها في الصناديق الحمر إلى موظف الأمن على الباب والاستقبال والمقسم إلى العيون الساهرة من عمال المطبعة وغيرهم من جنود مجهولين.
بعد أربع سنوات حققت الكثير من المنجزات، وبقي الكثير. ولا أحسب أن الناشر محمد عليان يشعر بالندم على خوض هذه المغامرة، وإن كان اليوم يشكو من ارتفاع قيمة الورق في السوق، فالمؤكد أن “الغد” رفعت من قيمته محتوى راقيا من المعرفة أخبارا ومعلومات وأفكارا وآراء. وإن كان للإعلان سعر، ويشكل محتوى كثير من الصحف، فإن المعرفة لا تقدر بثمن. وقد جعلتها “الغد” تقف على باب القارئ بعد أن كان يسعى إليها.
هل تريد التعليق؟