ارتبط اسم تايلاند بتجارة البغاء، وهي نقيض الشرف. ومجرد زيارة هذا البلد يثير الشبهات. وقد شكلت هذه التجارة ركيزة من ركائز الاقتصاد إلى درجة أن ملك تايلاند شكر البغايا على دورهن في رفد الاقتصاد الوطني. باختصار هم بمفاهيمنا بلد خال من الشرف، ولا تصان فيه الأعراض ولا يراق الدم حفاظا على الشرف الرفيع. ذلك لم يمنعهم من إعلاء أهمية الشرف الوظيفي، وتحركت غيرتهم على المال العام، فدخلت البلاد في أزمة سياسية لأن رئيس الوزراء تقاضى مالا خاصا أثناء عمله العام.
ومن “سخفهم” لم يسمسر رئيس الوزراء على صفقة كبرى بل شارك في برنامج للطبخ (فكرة مناسبة للفاسدين العرب في شهر رمضان!). يذكر ذلك بما حل بوزير الداخلية البريطاني في حكومة توني بلير. فقد كان من أقوى الوزراء وهو ضرير من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكل جريمته أنه سرَع حصول خادمة عشيقته على الإقامة. ولم تثر حفيظة الناس اقامته علاقة مع امرأة متزوجة، وإنما أثارهم استغلال هذه العلاقة لتحقيق مكاسب من الوظيفة العامة. ولعل المثال الأبرز على تعدد مفاهيم الشرف وتناقضها الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون، فالقضية لم تكن إقامة علاقة مع المتدربة مونيكا لوينسكي وإنما الكذب بخصوص العلاقة.
ليس المطلوب تقليد تايلاند في تحرير تجارة البغاء، ولا تشجيع إقامة علاقات خارج إطار الزوجية. المطلوب توسيع مفهوم الشرف من الشخصي إلى العام. فالحقوق الشخصية قابلة للتوبة والمسامحة، أما الحقوق العامة فلا تساهل فيها. والأذى الشخصي يظل محدودا قياسا على الضرر العام. وتكفي حال مصر نموذجا، فمحافظ القاهرة أو موظفوه تسببوا في مجزرة دمرت حياة عائلات قاطنة في جبل المقطم، ليلتحقوا بمن قضى في حادثة العبارة من قبل. وفي الأثناء كانت تزكم الأنوف فضيحة رجل الأعمال والنائب الذي دفع مليوني دولار لضابط أمن متقاعد لقتل مطربة حسناء طاردها من لندن إلى دبي! ولك أن تتخيل الدور الرقابي الذي يمارسه النائب وضابط أمن الدولة من خلال الشراكة المؤسسية بينهما.
الحمد لله لم نشهد انهيار جبل ولا غرق عبارة، ولذا علينا أن نوسع مفهوم الشرف الوظيفي حماية لأنفسنا. ولتتحرك غيرتنا صونا له. لا نحتاج إلى تشريعات جديدة، ولدينا المادة 44 من الدستور التي تحظر على الوزير ومن هو دونه أي نشاط تجاري ومالي، ولدينا مجلس نيابي يستطيع كل نائب فيه أن يكون مؤسسة مكافحة فساد. وثمة كوادر متفرغة في ديوان المحاسبة والرقابة وهيئة النزاهة ودائرة مكافحة الفساد.. تستطيع ردع ومحاصرة ظاهرة الفساد.
ومع ذلك يظل للصحافة دورها الريادي، ففي قضية المنطقة الخاصة في العقبة كان التحرك الأول من الصحافة، ثم تحرك مجلس النواب وغيره من مؤسسات. وقد أظهرت القضية أن الصحافة ليست مشغولة في “قضية الشرف” بمعناها الشخصي، بل وسعت نطاقها ليشمل الوظيفة العامة. وهي قادرة على مساعدة الدوائر المختصة في رصد التجاوزات، خصوصا تلك التي لا تظهر على الورق بسهولة.
يستطيع الصحافيون أن يرصدوا شبكة الأزواج والأصهار والأشقاء والأبناء للمسؤولين، وهم قادرون على رصد التغيرات التي تطرأ عليهم بعد تولي المسؤول منصبه. فلم يعد الفساد “تنكة سمنة” ترسل على بيت المسؤول. ولا هو برنامج طبخ مثل رئيس وزراء تايلاند. العملية أكثر تعقيدا. بإمكانك أن تدقق في شركات مملوكة للزوجة أو الابن أو الصهر أو الشقيق.. كيف كان عملها قبل تولي المعني الوظيفة العامة وبعدها.
“الشرف الوظيفي” يتطلب أن يتخلى المسؤول عن أي عمل خاص تماما، حتى لو كان برنامج طبخ. وإن كان غير قادر على التضحية بمصالحه الخاصة فعليه ألا يتولى وظيفة عامة. وليبق هو وعائلته الكريمة يبنون ثرواتهم من دون أن تتدخل بهم الصحافة إلا في سياق رصد نجاحاتهم.
هل تريد التعليق؟