كل هذا الحرص على الشعب الفلسطيني يبدو مفتعلا، وغير مفهوم، وغير مقبول. وغير بريء، وكأنه ولد للتو خداجا، وأدخل الحاضنة يهدده رقيق نسائم الهواء. للحريصين على هذا الشعب عقب فوز حماس (الكارثي حسب ما يتداول سرا وعلنا) أن يتذكروا أن ما تعرض له منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي أعطاه مناعة وخبرة وحصانة لا تتوافر لدى كثير من الشعوب المجربة. دعوه يمارس خياراته السياسية والاجتماعية على الأقل مثل جاره العدو. هل خالد مشعل أكثر تطرفا من شارون؟ هل الانعطاف يمينا خاصية للشعب الفلسطيني أم سمة لا يخلو منها حتى الأميركيون والأوروبيون؟
الشعب الفلسطيني يعلم من انتخب تماما، ولم يكن تصويته مجرد نفثة مصدور يزفر فيها مكبوتات غضبه المتراكم فحسب، بل اختار ما يريد بالضبط. ولو أعيدت الانتخابات بعد عزل الظروف التي يتحدث عنها المحللون لاختار الشعب حماس مجددا. فهو يعلم أن خالد مشعل لن يقود سيارته الرئاسية ويفجرها في أقرب حاجز إسرائيلي، لكنه يعلم في المقابل أن مشعل لن يكون شريكا في شركة تستورد الإسمنت لبناء الجدار العازل، ولن يبدد قليل الموارد والمساعدات على أزلامه وعشيرته الأقربين.
الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى محللين من أرقى الجامعات الغربية ومراكز التفكير ولا يطرب لسماع معلقي الفضائيات ولا يقرأ أصلا ما يسطره سدنة الحداثة والتنوير. هو يرى عيانا ويدرك مباشرة ما يجري ويقرر بمحض إرادته من بعد.
منافقو الغرب والشرق هللوا لانتصار الديمقراطية في لبنان، وهم يعلمون أن اختيار اللبنانيين كان مقيدا بموروثات القرن الثامن عشر وبمكنوز ثروات المال السياسي، وجاءت النتائج لتكرس زعامات الطوائف الذين لا يخلو جلهم من قطرات دم بريء سفح في الحرب الأهلية المديدة أو من مال حرام سرق في ظلال المنصب خلال فترة الوفاق الهشة.
المنافقون ذاتهم يعرفون ويحرفون، يعرفون أن قادة حماس لم يرث واحد منهم زعامة ولم يسرق مالا، خالد مشعل كان مجرد طالب في كلية العلوم في جامعة الكويت ومن دونه ليسوا أحسن منه حالا.
أكثر من ذلك اختار الناخبون برنامج حماس المحافظ اجتماعيا. لماذا يحق للشعب الإيطالي أن ينتخب ممثلة إباحية ولا يحق للفلسطينيين أن ينتخبوا محجبة. هم يحبون نمط الحياة المحافظ ما المشكلة في ذلك؟ هل يدقق العرب والمسلمون في طول تنانير عضوات مجلس العموم البريطاني كما يدققون هم بالقماش الذي يغطي رؤوس مرشحات حماس. دعهم يختارون فإن لم يعجبهم يغيرون، هذه البديهية تختفي عند الحديث عن فوز الإسلاميين ولو بالصومال.
ما هو أسوأ من النفاق الليبرالي النفاق أو الغباء القومي والإسلامي، هل ستفاوض حماس؟ هل ستتخلى عن ثوابتها؟ هل ستفرط بدماء الشهداء؟ هل ستتخلى عن برنامج حرب النجوم؟ وكأن حماس دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن! حماس حركة تحرر محكومة بإمكانات شعبها ومناصريها. تقوم بما أمكن وتحاسب على ما تستطيع. ولا داعي للمزايدة على حركة قادتها جميعا قيد الاغتيال والاعتقال.
ثمة إشكاليات ومعضلات لا بد من التعامل معها بحكمة ومرونة. ونضج حماس يحسب لها لا عليها. فسلاح التخوين الذي تخلت عنه قبل الانتخابات لا يجوز أن يستخدمه غيرها أو تلمز وتعير به. المفاوضات مع العدو إحدى ثمرات الصراع. حتى القاعدة عندما تدعو إلى هدنة فهي تفاوض عبر وسائل الإعلام. وحماس لا تدعي تبني برنامج القاعدة.
المشكلة أن ثمة من يصر على أن يرى الفلسطينيين شهداء دائما. عقب اجتماعات مركزية فتح منتصف العام الماضي كتبت عن هؤلاء في هذا المكان: لو أن حماس فازت بأكثرية مقاعد المجلس التشريعي، فهذا يعني أنها ستصبح الحزب الحاكم؛ أي تملك السلطة التي نذرت نفسها لمحاربتها، باعتبارها ثمرة خبيثة من ثمار اتفاق أوسلو، الذي قالت فيه مقالة مالك في الخمر. وفي ظل المؤسسية التي تبشر بها القيادة الفلسطينية بعد رحيل أبو عمار، فإن من يقود السلطة يكون مسؤولا عن الأجهزة الأمنية؛ أي أن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والذي سيشكل الحكومة بعد فوز الحركة، سيطلب من وزير الداخلية (…) نزع سلاح المقاومة في حال نفذت حكومة شارون التزامات خارطة الطريق حرفيا. أم أن حماس ستعلن انتفاضة رابعة، مستغلة تفويض الشعب الفلسطيني لها، وتكرر حصار المقاطعة، وتقدم خالد مشعل شهيدا.. شهيدا، خصوصا أن السم الذي أصابه في محاولة الاغتيال الفاشلة لا يزال موجودا في خزائن الموساد، وسيحظى بوصفه رئيس سلطة بعناية غير مجدية في المستشفيات الفرنسية.
هذا هو السؤال الحقيقي: تريدون خالد مشعل شهيدا، وقد كان مع وقف التنفيذ عام 97 أم تريدونه رئيسا؟ وهو ما ينسحب على الشعب الذي انتخب حماس.
هل تريد التعليق؟