لم تكن صبيحة يوم الإضراب مختلفة عما ألفته العين عن لبنان الذي ظل يتوارى خلف سحب الدخان. لم تكن غابت عن العين سحب الدخان التي خلفتها حرائق القصف الإسرائيلي في عدوان تموز. الثلاثاء الماضي كانت سحب أخرى تسد الأفق؛ الشبيبة في بواكير الصباح كانت تحرق الدواليب، سادّة الطرق فرضا للإضراب العام الذي دعت إليه المعارضة.
إضراب لبناني بامتياز! فالشبيبة التي تحرق الدواليب، ذاتها تحرق بالتزامن الفحم لتشغيل النراجيل التي يغص بها مخيم المعتصمين. وفي الوقت الذي تنساب المياه لتأمين مياه الوضوء لنشطاء حزب الله، لا تضن على قوارير النراجيل. يتندر اللبنانيون على انخفاض أسعار النراجيل والشاي والقهوة في وسط المدينة بعد أن كان السوليدير المجاور للمعتصمين الأغلى في الأسعار. وهو منذ انطلقت فعاليات المعارضة تحول إلى مكان موحش، يحسب داخله أنه في حظر تجوال.
المياه ومتطلبات الاعتصام والإضراب يؤمنها حزب الله بشكل أساسي، فتجد سيارة خزان مياه عنون بـ “جهاد البناء”، ذراع المقاولات لحزب الله، والذي لعب دورا أساسيا في اعادة البناء ورفع الأنقاض عقب الحرب. وهي الأنقاض التي استخدمت أيضا في قطع الطرق.
تعليق الإضراب جاء مفاجأة سارة للبنانيين الذين تحولت حياتهم في غضون ساعات إلى ما يشبه حياة الفلسطينيين في ظل “المحاسيم”؛ فمن أراد العمل عليه قطع الطرق مشيا، ومن استخدم السيارة يحتاج أضعاف الوقت المعتاد. والأهم من ذلك أن شبح الحرب الأهلية ابتعد، ولو قليلا عنهم.
قبيل تعليق الإضراب، كان صديقي اللبناني يوضح لي ملامح خطوط التماس التي بدأت تدب فيها الحياة. ولم تكن مخلفات الحرب الأهلية، بعد أكثر من عقد ونصف العقد، قد تلاشت، فكثير من الأبنية لايزال شاهدا على ويلات تلك المرحلة.
غابت عن ساحة الشهداء خيام من اعتصموا يوما رافعين شعار “05”، أي أن العام 2005 هو عام الاستقلال اللبناني، في إشارة إلى التحرر من الوصاية السورية، وحلت مكانها خيام خصومهم الذين يريدون التحرر من الوصاية الأميركية الإسرائيلية. وفي ساحة الشهداء الذين سقطوا يوما للتحرر من العثمانيين، لا يزال متسع لكثير من شهداء للتحرر من قوى خارجية. والواقع أن اللبناني حتى اليوم لا يزال أسيرا لطائفته قبل أي شيء.
يسهل إطلاق الأحكام على الواقع اللبناني؛ فحزب الله ينفذ برنامجا إيرانيا-سوريا اعتمادا على تنظيم حديدي نجح في هزيمة الجيش الإسرائيلي، أما السلطة، فهي أداة أميركية-صهيونية لفرض شرق أوسط جديد يخلو من المقاومين والصامدين. والصعب هو تفكيك عناصر الأزمة اللبنانية التي يتداخل فيها الدولي والإقليمي والمحلي. وبقدر ما تحضر اللحظة الدولية وخطاب بوش وأحمدي نجاد واستقالة حالوتس، تضغط سنوات الحرب البعيدة وصراعات جعجع والجنرال عون. ولا يغيب التاريخ البعيد: فتية سُنّة يكتبون على الجدران “يا عمر يا أبو بكر”، في الوقت الذي تسمع نحيب “الرادود” يبكي الحسين رضي الله عنه في مجالس العزاء الحسينية التي يحيي فيها الشيعة ذكرى قتل سبط النبي.
كل يبكي حسينه في لبنان. حتى إيلي حبيقة الذي ألف مرافقه “كوبرا” كتابا في جرائمه التي يصعب إحصاؤها، تفاجئك صورة ضخمة له في مطلع دخولك لبنان من معبر المصنع، تقول: “من هنا تبدأ الحقيقة”، في رد ضمني على المطالبة بكشف “الحقيقة” في مقتل الحريري. وبجوار صور الأموات الضخمة، ارتفعت لافاتات فريق السلطة “أنا أحب الحياة”، وإلى جوارها لافتات المعارضة التي وضعت استدراكات عليها “…الحياة بكرامة، بلا ديون”.
فإذا كانوا يحبون الحياة، معارضة وسلطة، فمن أين كل هذا الموت؟!
هل تريد التعليق؟