تستمرئ النفس البشرية دور الضحية. وكما الطفل في الحضانة الذي يعتقد أن المعلمة لا تحبه وأن زملاءه يتآمرون عليه، تأنس الأمم بهذا الشعور. وبدا ذلك جليا في قضية “الرسوم المسيئة”، فبدلا من أن تبادر الأمة إلى فهم نبيها وتفهيمه للعالم، انتفضت بغضبة لم تستمر طويلا. ولو أجري استطلاع رأي للغاضبين لتبين أن جلهم لم يقرأ كتابا بسيطا في السيرة، ولم يطلع على “الأربعين النووية” التي تضم أربعين حديثا نبويا اعتبر الإمام النووي أنها الأهم في السنة النبوية.
يكتمل شعور الضحية مع حال الكآبة العامة، وبدلا من أن تكون المناسبة السارة نافذة تدخل الضوء والهواء للغرفة المظلمة، تتحول ستارا أسود إضافيا يراكم حال الحداد.
تستحق ذكرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ابتهاجا لا كآبة. والاحتفال ليس وعظا مملا كالذي تقيمه وزارات الأوقاف. بل احتفالا في كل بيت يروى فيه المولد بشكل يبهج الصغير والكبير، ويجيب عن السؤال الأساسي: لماذا نحبه؟
إنه حب تتفاعل فيه العاطفة مع العقل مع الإنجاز الحضاري مادة وروحا. فالعالم مدين لهذا اليتيم الذي نشأ في واد غير ذي زرع بتطوره العقلي والمادي تماما كما هو مدين لإشراقات روحه التي أنارت القلوب المظلمة. فيه اكتمل الإنساني مع النبوي. فالأرض لا تتعارض مع السماء بل تتكامل معها. وما لا جذور له في الأرض لا أفق له في السماء. لم ينزل الوحي على نكرة. بل نزل على سيد في قومه، وكان كما وصفه عمه يوم خطب له خديجة “لا يوزن به فتىً من قريش، إلا رجح به شرفاً ونبلاً، وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قِلٌ، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك”.
تغيب عنا تلك الصورة المشرقة، النبي التاجر، نتذكر النبي الثائر، النبي اليتيم، النبي القائد.. وننسى تلك الصورة التي حببت إليه أحب الناس إليه. خديجة الكبرى رضي الله عنها. فهي لم تره في ميادين الوغى يخوض المعارك لا يجبن أن أرعدت الكتيبة بصواعق الموت، رأت عظمته أمام إغراء المادة فلم يخن الأمانة، وفي رحلة الشتاء والصيف تتجسد الصورة الحضارية للقبيلة التي آلت إلى أمة مفتوحة على العالم.
لأهمية التجارة كان الأنباط يعبدون “الكتبى” إله الكتابة والتجارة، وهم كانوا المحطة الأساسية لقوافل قريش، مر محمد قبل النبوة بهم وشاهد منجزهم الحضاري في المعمار والتجارة، تماما كما التقى بالراهب المسيحي بحيرة واستظل معه في ظل “البقيعاوية” الشجرة الخالدة في صحراء الأردن الشرقية (على ما تعتقد العامة وبعض الباحثين!). حملت الرحلة التجارية شعار “إيلاف قريش” ولا تعيش الناس في إيلاف إن لم تطعم من جوع وتأمن من خوف.
بنزول الوحي لم تعد قريش قبيلة في مكة، بل فكرة حدودها “رحمة للعالمين” وأفرادها “بني آدم”، وكانت آخر الوصايا في حجة الوادع “كلكم لآدم وآدم من تراب”. لم تنزل أول الآيات “قاتل” بل كانت أول آية “إقرأ”، ولم تكن حدود القراءة هي القبيلة الصغيرة بل الكون والإنسان بآفاقهما غير المحدودة. وجاءت أولى الآيات لتحذر من الطغيان الكامن في النفس البشرية “كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى” فالاستغناء بالمال أو القوة أو العلم أو أي قوة مادية طريق مؤكد للطغيان مالم يقيد بالأخلاق والقيم الروحية.
أعجبت خديجة الكبرى سيدة الأعمال بالتاجر الشاب، الصادق الأمين، ولم تجد حرجا من إبداء إعجابها به. لم يحبا بعضهما في أجواء التضحية والجهاد، أحبا بعضهما في حال من الرفاه والدعة. وعندما استحقت التضحية وتحول التاجر إلى ثائر، ازداد الحب وطابت التضحية. وكان عام وفاتها بحق “عام الحزن” على النبي وصحبه.
تكامل الإنسان في محمد قبل أن أن يزل وحي السماء، صحيح أنه ذاق مرارة اليتم، إلا أنه وجد في الأسرة الكبيرة حنانا وعطفا عوضه عن الفقد. وهنا يبدو حبه لأعمامه أبو طالب وحمزة والعباس. وكان أول من أسلم من الفتيان ابن عمه علي رضي الله عنه. وعاش حياة الرعاة في البادية كما عاش حياة التجار في المدينة، وعرف قوة الإقناع بالحجة في العهد المكي كما عرف قوة السيف التي تدك معاقل الطغاة.
ركزت “الرسوم المسيئة” على صورة النبي المقاتل، وهذه صورة نفخر بها تماما كما نفخر بصورة النبي التاجر، واليتيم، والقائد، والأب وغيرها من صور الكمال. فهو لا يقبل الطغيان والعدوان، وظل يواجه قومه بالحجة والبرهان ثلاثة عشر عاما، ولم يدخل مكة فاتحا إلا بعد أن استنفد كل السبل. وفي القتال كان الخلق الإنساني والوحي الإلهي يحكمان سلوك المقاتلين. وتجلى ذلك في فتح مكة، يوم عفا عفوا خاصا عن هند بنت عتبة التي أكلت كبد عمه حمزة سيد الشهداء. كان يستطيع أن يشملها بالعفو العام بوصفها من “الطلقاء” لكنه علم البشرية أنه ليس بحقود. يغفر ولا ينسى. وتعدى عطفه الإنسان إلى الطير والشجر حتى في المعارك. فهو القائل “ردوا عليها فراخها” عندما شاهد الطير تبحث عن فراخها الذين أخذهم الصحابة من عشهم في الغزو.
نحبه ونفخر به وننتسب إليه، إنسانا ونبيا، راعيا وتاجرا، قائدا ومقاتلا.. وهو هدية السماء للبشرية لا لأمته. وهو ظلم ابتداء من أتباعه الجهلة الذين لم يعرفوه ولم يعرفوا البشرية به. لم يكن أستاذ اقتصاد إلا أنه قدم قيما للاقتصاد تحتاجها البشرية اليوم. فمفهوم القرض والإقراض لم يكن لتلبية الشره المادي المسعور، بل لمواجهة الفقر والتضامن مع الضعفاء وتحقيق العدالة الاجتماعية. “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له” هل توجد نظرية أنزلت الفقراء هذه المنزلة؟ فأنت لا تمن على الفقير بفتات مالك وإنما يمن عليك الله بقبول قرضك الذي ستجني أضعافه. فالله هو الفقير الذي تقرضه وهو المريض الذي تزوره “ولو زرته لوجدتني عنده”.
تستحق الذكرى انفعالا بحب صاحبها، وتتطلب إعمالا للعقل، فلا تعارض بين الحمية للنبي في وجه من يمارسون عنصريتهم الفظة بحق أتباعه، وبين التعرف على النبي وتعرف الناس به. فالابتهاج في المناسبة يليق به صوت أم كلثوم بكلمات شوقي “أبا الزهراء قد جازوت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا”
ويليق به شعر الفيتوري:
يا سيدي عليك افضل السلام
من امة مضاعة
خاسرة البضاعة
تقذفها حضارة الخراب والظلام
اليك كل عام
لعلها تجد الشفاعة
لشمسها العمياء في الزحام
هل تريد التعليق؟