مقالات

رامسفيلد والدماء التي تغطي الشاشات

    مع أن وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، يتسم بشخصية استفزازية غير محببة، إلا أنه يسجل له وضوحه الصلف، الذي يكشف عن حقائق قد تموَه في لغة دبلوماسية ناعمة. فهو مجددا يلقي باللائمة على الإعلام، وتحديدا محطة الجزيرة، في رسم صورة بشعة لأميركا، وفي تشجيع الإرهابيين من خلال نشر صور قتل الرهائن. وجاءت التصريحات في وقت لا تكل إدارة بوش، في عهدها الثاني، عن التبشير بالحريات في المنطقة، وعلى رأسها الحريات الإعلامية.

    حديث رامسفيلد، ظاهريا، من السهل جدا الرد عليه. فهو يسمع عن الإعلام العربي ولا يشاهده، وما يسمعه تختلط فيه الأيديولوجيا المعادية للعرب والمسلمين بالكذب والأساطير.. وهو مثل المسؤولين في العالم الثالث، يعتمد على تقارير عن الإعلام العربي يعدها مخبرون أغبياء، يسعون إلى إسماع المسؤول النغمة التي يحبها.

    شخصيا عانيت من هؤلاء المخبرين. فعندما كنت في بغداد اتهمني نائب وزير الدفاع إذاك، وولفويتز، بفبركة تقرير عن اعتقال مقتدى الصدر. وكم كان مرضيا لتواضعي أن أقول إن بإمكان وولفويتز العودة إلى موقع الجزيرة الإلكتروني ليكتشف أني قلت، نقلا عن مساعدي الصدر، أن قوة أميركية طوقت منزله، وبسبب ذلك احتشد الآلاف من أنصاره احتجاجا، وحملت وزارة الدفاع الأميركية مسؤولية سلامتي الشخصية! طبعا لم يعتذر وولفويتز عن حديثه المفبرك، ولا أعتقد أن أحدا حوسب على تضليل مسؤول كبير في وزارة الدفاع. وعلى ما يبدو، فإن المخبر ذاته هو من ورط رامسفيلد بخبر صور قتل الرهائن.

بعيدا عن تقارير المخبرين، فالإعلام العربي ومنه محطة الجزيرة، أقل تعبوية وتحريضا من الإعلام الغربي. فالجزيرة لديها ميثاق شرف يحظر صور قتل الرهائن، وغيرها من الصور البشعة، ويوم تصريحات رامسفيلد كان الإعلام الغربي يبث صور قتل الرهائن المسلمين في البوسنة، في حين امتنعت الجزيرة عن ذلك (السؤال هل يعتبر الغربيون المسلمين بشرا؟)، واكتفت بصور ما قبل الدم، وهو ما تفعله أصلا من أول صور وصلتها لعملية قتل رهائن.

وللعلم، كانت أول صور قتل رهينة في العراق قد بثها تنظيم القاعدة على شبكة الإنترنت تعود للأميركي بيرغ، وبعدها للرهائن الإيطاليين، ثم الكوري والبريطاني و… كل ذلك لم تستخدمه محطة الجزيرة، وكانت تعتذر للمشاهدين عن بث المشاهد البشعة، ووسائل الإعلام العربية كانت تفعل ذلك أيضا.

      لكن  كيف تصرف الإعلام الغربي مع صور الأسرى والمخطوفين والقتلى عندما يكونون في صفوف الأعداء ؟ للمثال لا الحصر: صور اعتقال صدام, صور جثث نجليه عدي وقصي !

      هذا ظاهريا، أما في العمق، فأجدني أتفق مع رامسفيلد في أن شاشات الأخبار في العالم كله دامية! وهو ما يشوه صورة بني آدم بوصفه إنسانا، مهما كان لونه أو دينه أو جنسه. وللأسف، فإن مدرسة الدم في الأخبار أميركية بامتياز، وأول مرة سمعت بقاعدة “في المقدمة.. إذا كان دما” كانت في أميركا، عام ثمانية وتسعين! كنا ثمانية صحفيين عرب ضمن برنامج الزائر الدولي، وكان أكاديميون أميركيون يشكون من هيمنة أخبار الجريمة على نشرات الأخبار. لكن الجريمة لم تعد على مستوى ولاية، وإنما غدت معولمة، ووسائل الإعلام تلهث وراءها.

        لا بد من تغيير على مستوى الشاشات الكبرى في العالم، بحيث يعاد الاعتبار للدم بوصفه لونا للحياة لا الموت، لون جامع يشترك فيه البشر كافة، مهما اختلفت ألوان بشرتهم. وحتى لا أغرق في التنظير، طلبت مني محطة الجزيرة إعداد تقرير عن سرطان الثدي، ومع أنني استهجنت الطلب، إلا أنه بعد الانتهاء من التقرير اكتشفت بأنني للمرة الأولى أستخدم صورة الدم دليلا للحياة. كان دما يعطى لسيدة لها خمسة أبناء أجريت لها عملية استئصال ثدي.. كان المشهد تجسيدا لقوله تعالى: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

وفي سياق صورة أميركا، ذكرت في التقرير أن مركز الحسين للسرطان مرتبط بالمركز الوطني للسرطان في أميركا! وفي تعاون لا تستطيع حتى “القاعدة ” التنديد به.

        الإعلام العربي والغربي بحاجة إلى وقفة مراجعة عميقة وجادة، بعيدة عن ضغط اللحظة السياسية. فصورة أميركا لم تستطع محطة “الحرة”، وغيرها من الحرات، تحسينها،  لأن الإعلام يعكس واقعا بشعا لا يمكن تزيينه. لكن في المقابل، من يستطيع تشويه صورة بيل غيتس، ذاك الرجل الذي كلما نقر مسلم أو عربي على لوحة مفاتيح الكمبيوتر دان بالفضل له؟! وهو الذي جمع أكبر ثورة في التاريخ البشري، وفرغ زوجته، بدلا من متابعة صيحات الموضة، لمتابعة أمراض الأطفال في إفريقيا، منفقا زهاء ربع ثروته على الأطفال السود! الإعلام ينقل صورة الطفل الإفريقي وصورة الطفل الأفغاني والفلسطيني والعراقي في آن.

ليست مشكلة البشر تحسين “صورة” أميركا.. مشكلتهم تحسين” حقيقة” حياتهم.

هل تريد التعليق؟