نهاية غازي كنعان تجسد نهاية حقبة لم يعد أحد يرغب ببقائها. ورجل بقوته ونفوذه، غدا عبئا على النظام بعد أن كان عونا له. فعندما نقل من موقعه قائدا لجهاز الأمن والاستطلاع في لبنان إلى قيادة جهاز الأمن السياسي، اعتبر محللون ذلك رغبة من القيادة السورية في تهميش مراكز قوى في دمشق، من خلال المساحة التي سيحتلها كنعان.
في نظام يخلو من الشفافية، يسهل التشكيك في رواية الانتحار، خصوصا وأنها ليست الأولى في صف المسؤولين السوريين، ولا سيما في ظل الربط بين الانتحار ونتائج التحقيق الدولي في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. فالنظرية التي يتبناها المعارضون للنظام السوري تقول إن الرجل كان سيقدم كبش فداء لمسح كل ما تتهم به سورية في لبنان، وحتى خارجه.
هنا لابد من التوقف عند ظاهرة غازي كنعان وقد أفضى إلى ربه، سيما وأنها ظاهرة وسمت الحياة السياسية العربية بعامة، لا في لبنان وسورية بخاصة. فالظاهرة تعتمد على ممارسة أقصى درجات البطش والقوة بذرائع وطنية. إذ كان غازي كنعان يعتقد أنه يسعى إلى وحدة لبنان وإعادة بناء دولته وجيشه وتحرير أرضه، تماما كما يسعى إلى حماية سورية من الاستهداف الخارجي. وهو واحد من مئات الجنرالات في العالم الثالث الذين يكتسبون أهمية بفعل هزال المجتمعات التي يعيشون فيها لا بفعل قوتهم.
لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبته سورية (بقيادة غازي كنعان) في حماية الموارنة اللبنانيين الذين كادت تسحقهم القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، كما لا ينكر دوره في دعم المقاومة اللبنانية مذ نشأت وصولا إلى حزب الله. هذه الأدوار المقبولة توجت بإعادة بناء الجيش اللبناني على أسس غير طائفية، وهي المهمة التي تولاها فنيا خلفه رستم غزالة.
في ثنايا ذلك، كانت ثمة أدوار مرفوضة أو مشبوهة يتهم بها كنعان، رغم أنه يصعب، وربما يستحيل إثباتها، وهي الأدوار القمعية والدموية التي ذاق ويلاتها كثير من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين. وليد جنبلاط اتهم صراحة “شراذم البعث” باغتيال والده كمال جنبلاط، زعيم الحركة الوطنية اللبنانية. كما أن أوساطا سنية تتهم الاستخبارات السورية باغتيال مفتي السُّنة في لبنان، حسن خالد. وتتكرر التهم ذاتها باغتيال شخصيات مارونية مثل بشير الجميل وصولا إلى إيلي حبيقة. وثمة قائمة طويلة من الاغتيالات والتصفيات والمجازر.
كل تلك الدماء ما كان له ولي، باستثناء الدماء التي سالت يوم تفجير مقر المارينز ومقر السفارة الأميركية في بيروت. صحيح أن الجهاد الإسلامي، أي التيار الإسلامي الحركي الشيعي، أعلن مسؤوليته عن التفجيرات، إلا أن الأميركيين يعتقدون أن أحدا ما كان ليصل إلى تلك النقاط بدون علم أو تواطؤ أو رعاية جهاز الأمن والاستطلاع. هذا الملف أكثر أهمية من اغتيال رفيق الحريري وسمير قصير، لكن فتحه لا يحظى بدعم شعبي لبناني. لذلك، كان الأنسب للأميركيين أن يستخدموا ضد سورية ورقة اغتيال الحريري بالاستفادة من المد الشعبي الذي أعقب الجريمة.
هل أراد كنعان أن يقضي بيده لا بيد عمرو؟ أم أن ثمة من أراد التخلص منه حتى لا “يجرجر” معه كثيرين؟ خصوصا في ظل تزايد الضغوط الأميركية على أكثر من مستوى، وهي ضغوط يبدو أن سورية اختارت أن تواجهها بمزيد من التصعيد، إلى درجة أن رئيس وزرائها يصرح بأن “أبواب جهنم” ستفتح على أميركا إن هاجمت سورية. ولا يمكن فصل “انتحار” كنعان عن “أبواب جهنم”!
هل تريد التعليق؟