مقالات

سلام ليلة القدر في عمان

لم تنم عمان أول من أمس، حالها كحال مدن أمة الإسلام التي لم يغمض جفنها طلبا للسلام. فتلك الليلة، التي يزيد فضلها على ألف شهر، لا تتحقق فيها مطالب الناس بالمتع والملذات الفانية، وإنما هي ليلة تتحقق فيها “الباقيات الصالحات” التي تبقى ويفنى ما عداها من مال وتكاثر.

لم يتحدث القرآن عن مال وبنين وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ولا عن جنان وأنهار وملذات ومتع يجنيها الإنسان في الليلة المرتقبة، بل تحدث عن مفردة واحدة يستطيع أضعف إنسان تحقيقها، وربما يعجز عنها أغنى الناس وأقواهم، وهي “سلام”؛ فالسلام الداخلي هو أرقى وأجمل القيم التي يسعى إليها الإنسان المعذب الشقي.

المصالحة الداخلية مع الذات هي التي ترقى بسوية الإنسان. والذات هي الفطرة السليمة النقية المعافاة، التي يغيّرها الإنسان ويكدر صفاءها. وفي ليلة القدر التي تنزل الملائكة والروح فيها، يستطيع الإنسان أن يجلو ما ران على فطرته، وأن يحلق في معارج الروح التي خلقها الله على صورته.

“سلام هي حتى مطلع الفجر”؛ فرصة تاريخية محدودة بين غروب الشمس وشروقها، متاحة لكل إنسان. فتلك الليلة التي تنزل فيها القرآن الكريم، كلام الله الذي يتحدث فيه لخلقه، كل خلقه، لم يخص أحد دون غيره بكلامه. وكان أول ما نزل “اقرأ”؛ القراءة في كلام الله المسطور، والقراءة في الكون المنظور. وفي ليلة القدر تحقق الاتصال الذي لا ينقطع بين الخالق والمخلوق، وهو اتصال لا ينقطع بختم النبوة أو وفاة النبي عليه السلام.

الاتصال بين الخالق والمخلوق لا يحتاج وسطاء، فالله تقرأه في كونه، ولو لم تستطع قراءة حروف كتابه. فالنبي الأمي كان في غار حراء يقلب وجهه في السماء ويعرف الخالق قبل أن يتنزل القرآن. وآيات الله ليست ما نتلوه في القرآن الكريم فحسب، بل نراها في الكون والإنسان “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.

الاتصال بين الخالق والمخلوق عبر آيات الله المسطورة في كتابه، والمنثورة في كونه وإنسانه، هو ما يحقق السلام الداخلي. وفي ليلة القدر يخاطب الناس خالقهم كما يخاطبهم، يسرون له ويعترفون بما غيروا وبدلوا من فطرتهم، يرجونه العفو وهو العفو، “اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعف عني”، هذا الدعاء المأثور في ليلة القدر. ويأملون أن يعودوا كما خلقهم، أطفالا بلا خطايا وأخطاء. ومن يطلب العفو لا بد أن يكون هو عفوا؛ يعفو الناس في تلك الليلة التي يسمع الله فيها ممن امتلأت قلوبهم غلا وغضبا، وحسدا وحقدا.

ليس في الإسلام قيمة أسمى من السلام، وهي القيمة التي تظلل ليلة القدر وتجعلها خيرا من ألف شهر. والجنة هي دار السلام، “والله يدعو إلى دار السلام”، “تحيتهم فيها سلام”، “أدخلوا في السلم كافة”؛ هذه غاية الوجود التي يسعى إليها كل إنسان، وبقدر ما يسهل تحقيق قيمة السلام داخل الفرد، يصعب تحقيقها على مستوى الناس، وكأن الدنيا هي دار الحرب والآخرة هي دار السلام.

ذلك ما حذرت منه الملائكة يوم خلق الإنسان: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”. إقامة السلام بين الناس يتطلب إقامة العدل، ولا يتحقق العدل دون قوة تسفك فيها الدماء “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله”.

في ليلة القدر في عمان وغيرها بقدر ما دعا الناس لأنفسهم بالعفو دعوا لإخوانهم في العراق وفلسطين، وضجت المساجد بالدعاء لهم علهم يعيشون الأمن والسلام الذي حرموا منه. غير أن السلام يبدو بعيدا في ظل غياب العدل، والدعاء وحده لا يكفيهم، لكن هذا ما استطاع الناس أن يقدموه لهم، مع قليل من تبرعات يصعب وصولها في ظل أطواق الحصار.

هل تريد التعليق؟