لم يتعرض مفهوم للتزوير والتشويه، من قبل الحادي عشر من سبتمبر ومن بعده، كما تعرض مفهوم الشهادة. فهي منتهى تكريم الإنسان المظلوم أمام القوة الطاغية، وليست طغيانا في قتل الأبرياء. فالأصل أن قتل النفس محرم، ومن قتلها سواء كانت نفسه أم نفسا أخرى فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. القاتل هو من يستحل القتل، والمقتول المظلوم هو الشهيد. ومن أصول الدين حفظ النفس لا قتلها.
القتال، استثناء للأصل، فرض لمنع القتل والظلم وإقامة العدل “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا” “وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والولدان يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها”. من يقتلون لم يختاروا ذلك، القوة الطاغية سلبتهم نفوسهم التي كلفوا بحفظها. حتى الاستشهاديون لو خيروا لاختاروا رفع الظلم من دون تضحية بالنفس.
في العالم العربي، ما أحوجنا إلى الروح الاستشهادية التي تقاتل من دون وجل، وتعرض النفس العزيزة للخطر في سبيل رفع الخطر عن نفوس الآخرين. الروح الاستشهادية لا تعني الاحتراب واستخدام العنف. بل هي قد تكون مهاتمية. والمهاتما نفسه على سلميته المطلقة قضى مظلوما على يد المتطرفين. وهو ملك روحا استشهادية لم تلن أمام المستعمر أو أمام المتطرف.
في العالم العربي نحتاج في ظل الاستبداد والانسداد السياسي إلى شهداء، لا ينشرون الموت بالشوارع من خلال تفجيرات عمياء ترسخ الاستبداد وتعطيه المشروعية، وإنما من خلال نشر قيم الحياة في الحرية والتحرر والعدل والمساواة والتقدم، ولو كلفهم ذلك حيواتهم.
وأنت ترنو إلى قامات ثلة من الصحافيين والناشطين العرب تتذكر حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائرٍ؛ فأمره ونهاه؛ فقتله”، فالأمر والنهي بالكلمة يرد عليه بالقتل، والسجن، والملاحقة. وغير ذلك من أدوات الجور والطغيان. في عينة من الثلة التي لم تستكن، ولم تروض، الفاهم بوكدوس من تونس. والذي انتزع من فراش المستشفى إلى السجن. وعندما أعربت خارجية الولايات المتحدة عن قلقها “حيال تراجع الحريات السياسية، وخصوصاً القيود الشديدة على حرية التعبير في تونس”، ردّت وزارة الخارجية التونسية بأنّ بوكدوس ليس “صحافيا”.
ليس بعيدا عن تونس، في المغرب توقف الكاتب توفيق بوعشرين الذي قاد بنجاح صحيفة المساء وجعلها الأولى في المغرب، وواصل نجاحه في أخبار اليوم. وفي مقاله الأخير نعى قلمه: “أما نحن، فلا نملك إلا أقلامنا نحتج على كسرها، ولا نملك إلا رفع أكفنا إلى العلي القدير طلبا لعدالة السماء في بلاد ماتت فيها عدالة الأرض”. “لم تكتفوا بمنع “أخبار اليوم” خارج القانون، ولا بمصادرة معداتنا خارج القانون، ولا بإقفال مقر جريدتنا خارج القانون، ولا بالحكم على هذا العبد الضعيف بأربع سنوات حبسا موقوف التنفيذ و300 مليون غرامة. مايزال لديكم عندنا فواتير أخرى تريدوننا أن ندفعها هذه المرة من سمعتنا وكرامتنا وشرفنا… إنكم واهمون.. اللعبة ليست سهلة إلى هذه الدرجة”.
وقال محمد عبد الدايم، منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في لجنة حماية الصحفيين، “من الواضح أن السلطات المغربية تستخدم الاتهامات الجنائية من أجل إسكات توفيق بوعشرين. وهذا يمثل حلقة أخرى من سلسلة أحكام مسيسة ضد الصحافة المستقلة. نحن نناشد محكمة الاستئناف أن تظهر أنه لا مكان في النظام الديمقراطي لمثل هذا الاستغلال للمحاكم، وذلك عبر إسقاط حكم الإدانة الصادر ضد بوعشرين”.
قضية بوعشرين هي الأخيرة من سلسلة محاكمات مسيسة ضد الصحافيين الناقدين. فخلال الأسبوع الماضي تم توجيه اتهامات بسرقة معدات كمبيوتر ضد الصحافي علي عمار، المحرر السابق لصحيفة “لو جورنال إبدومادير”، وذلك بحسب ما أوردت منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان ووسائل إعلام محلية. وخلال العام الماضي، وثقت لجنة حماية الصحافيين حالات متعددة قامت السلطات خلالها باستخدام المحاكم لتصفية حساباتها مع صحافيين. وحذّر الصحافي المستقل علي أنوزلا، محرر صحيفة “الجريدة الأولى” التي اضطرت خلال الشهر الماضي للتوقف عن الصدور بسبب مصاعب مالية، والصحافي بوعشرين مما وصفاه تكتيكات “الأسلوب التونسي” في تكميم الصحافيين المستقلين والتشهير بهم عبر اتهامات جنائية. ربما تذكر الأجيال المقبلة أن “سيد شهداء” دفع حياته ثمنا لكلمة حق، أو دفع الكلفة من حريته أو سمعته، وربما ينصف المناضلون في حياتهم، ويجنون ثمر الحرية التي ضحوا من أجلها.
هل تريد التعليق؟