يا شهيدا رفع الله به
جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علما
هاديا للركب رمزا للفدا
ما نسينا أنت قد علمتنا
بسمة المسلم في وجه الردى
كانت تلك الأبيات، وهي لعصام العطار المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية، تذيل صورة سيد قطب وهو يمضي مبتسما صوب حول المشنقة، في واحدة من المنشورات الدعائية للإخوان المسلمين. فقد وجدت في بطولة سيد قطب ومثاليته نقطة جذب لشباب الحركة الإسلامية، الذين يأسرهم نموذج العالم والشهيد. وبعد أربعين عاما على رحيله، ما يزال لسيد قطب حضوره وألقه مهما اختلف الناس عليه.
لم أكن قد ولدت عندما أعدم سيد قطب، لكنني تعرفت، مثل جيل كامل، على الحركة الإسلامة من خلال كتاباته، وكان لها فعلها فينا. وهي كما وصفها شقيقه محمد قطب، بمثابة “نشيد” للحركة الإسلامية.
اختلف كثيرون مع سيد قطب؛ حتى الإخوان المسلمون في مصر اختلفوا مع بعض طروحاته، ورد عليه المرشد العام، حسن الهضيبي، في كتابه “دعاة لا قضاة”، لكن ذلك لا يعطي مبررا لاختزال تجربة الرجل الفكرية بـ”منظّر العنف”، كما خلص إلى ذلك برنارد لويس، وشايعه كثيرون من الكتاب الذين لم يقرأ جلهم شيئا لسيد قطب، وإنما قرؤوا عنه، أو سمعوا عنه في دعايات النظام الناصري.
ترجمت كتابات سيد قطب إلى معظم لغات العالم. والطريف أن مترجمه للفارسية هو علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران. وتعدى تأثيره الإخوان المسلمين، فاعتبرته الحركات الجهادية منظرا لها. لكن حتى بين أنصاره ومريديه اختزل نتاجه الضخم في بعده الثوري التحريضي، وبحسب رضوان السيد “فرقعة فكرية عنيفة”.
نظّر سيد قطب للعنف، لكنه نظر له في وقته. وكتابه “معالم في الطريق” يقرأ إلى جوار كتبه “السلام العالمي والإسلام”، و”العدالة الاجتماعية في الإسلام”، و”التصوير الفني في القرآن”. وكتابه الأضخم “في ظلال القرآن” ليس كتاب مقاتل يحرض المؤمنين فحسب، بل هو كتاب مفكر يشفق على البشرية ويسعى لإنقاذها. فالحضارة الحديثة بالنسبة له ليست نبتا شيطانيا، بل طائر يحلق بجناح المادة، وينقصه جناح الروح.
مفهوم أن يوصف نتاج سيد قطب، وهو الذي تصدى لعبد الناصر بكل ما يمثله من قوة على مستوى السلطة والشارع، بالفرقعة الفكرية العنيفة. والفرق واضح بين “سيد” الذي تصدى لعبد الناصر وبين “السيد” الذي عمل مستشارا للرئيس اللبناني الراحل رفيق الحريري. فنتاج المفكر رضوان السيد يتناسب مع عمله الاستشاري، كما يتناسب نتاج “سيد” مع تصديه لزعيم ما يزال له حضوره في الشارع العربي بعد رحيله عن الدنيا.
بالنسبة لسيد قطب كان عبدالناصر طاغية، وكان يرى واجب المفكر في أن يتصدى له. زاده في المواجهة كان ورقا وحبرا، تتغذى منها الطليعة المؤمنة. لم يشخصن قطب معركته مع النظام الناصري، كان الكون أفق المعركة بين الجاهلية والإسلام؛ الجاهلية تجسد الطغاة والمستبدين والمحتلين والأشرار، والإسلام تمثله الشعوب المستضعفة والطلائع المؤمنة. لم يرد النظام الناصري على سيد بورق وحبر، وإنما خنقه بحبل مشتقة.
حقق عبد الناصر أمنية سيد قطب، فهو في رسائله إلى شقيقته المشهورة باسم “افراح الروح” يقول إن كلاماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا من أجلها دبت فيها الحياة. ومذّاك لا تزال كلمات سيد حية، ولا يزال لها فعلها في عالم الإسلام، على تباعد الزمان والمكان.
لم يكن فكر سيد قطب وليد زنزانة مغلقة، بل كان نتاج تجربة فكرية ثرية، مفتوحة على العالم، لكنه تعامل مع السجان بلغته. كان بإمكانه أن يكون منظرا لعبد الناصر، وهو الزعيم الوطني، لكنه اختار أن يكون منظرا للأجيال الساعية إلى التحرر والانعتاق من الزعيم، وهي أجيال لا تزال معركتها مفتوحة، لكنها تواجه طغاة غير وطنيين، وليسوا بوزن عبد الناصر.
زار سيد قطب أميركا فلم يخرج منها مبهورا ذائبا فيها، ولا مدحورا معاديا لها. وصفها في الخمسينات بأنها “ورشة العالم”، وهي لا تزال كذلك. لكنه أخذ عليها، وعلى الغرب عموما، إفلاسها من القيم الروحية. وعلى إسلاميته، كان يدرك ضرورة التوازن الدولي. ففي كتابه الإسلام والسلام العالمي، يشيد بالتوازن الذي يسببه وجود الاتحاد السوفييتي مع الولايات المتحدة. وهو مذاك حذر من “إسلام أميركاني” قبل خروج نسخة رامسفيلد منه في صولة “صراع الأفكار” في حرب الإرهاب.
بعد اربعين عاما، يحتاج سيد قطب إلى قراءة ومناقشة لا إلى تلق أعمى، بقدر ما تحتاج أوضاعنا إلى تغيير جذري شامل، وهو ما كان يدعو له.
هل تريد التعليق؟