مقالات

شاي معطر أو “أيرل غريه”

ارتبط شرب الشاي بطقوس اجتماعية مهمة في كثير من المجتمعات، وفي البوذية يعتبر ضربا من العبادة. وفي مجتمعاتنا كان ولا يزال له دور حاسم في حياة الناس اليومية. وفي ذاكرة كل واحد أنواع من شاي الجدات والأمهات. وأحسب أن معان جنوبي البلاد ظلت البلدة الأكثر حفاوة بالشاي واحتساء له. وفي ذكريات يوسف العظم تفصيل لصناعة الشاي الذي يميزه النعنع المعطش المائل للصفرة فواح الرائحة.

ولا تقلل حرارة صيف الصحراء من أهمية المشروب الساخن. حيث يحتسى عصرا في “الحوش” بعد سقي الزرع القليل ورش مدة الاسمنت الملساء. عندما انتقلنا من معان إلى عمان في مطلع السبعينات رافقتنا ثقافة الشاي، ودخل تطوير عليه. الحوش ذو الخصوصية باسواره العالية  صار “فرندة” تطل على الشارع بسور مخفوض. وهو ما يمنع التمدد على الجنبية ويحد من حركة النساء، ويجعل الجلسة على كراس والشاي على “طربيزه”. أتقن الوالد صناعة الشاي التركي وإلى اليوم لا أعرف كيف يتمكنون من جعل الشاي طبقة منفصلة عن الماء الساخن!

لم يتوقف التطور على الشاي التركي، فانتقال الوالد إلى الرياض للعمل في برنامج تطوير الحرس الوطني فتح الآفاق على ثقافة شاي إنجليزي جلبتها الطفرة النفطية. في الإجازة حضر “الشاي المعطر” بعلبته الذهبية. غدا هو المفضل خصوصا في ظل غياب نعنع معان. توفي الوالد وانقطع الشاي المعطر. عدت إليه في الدوحة، كنا مع ماهر عبدالله، مقدم برنامج الشريعة والحياة، الراحل. في فندق الردسن الفاخر فطلب شاي “إيرل غريه” وطلبت مثل طلبه الغريب. وعندما شربت الشاي قلت له يا ماهر هذا شاي معطر وليس مثل ما قلت. قال لي، وهو درس وعمل في بريطانيا، يا أخي الإنجلير الذين اخترعوه سموه إيرل غريه. ومن هو إيرل غريه؟ لم يملك جوابا مكتفيا بأنه لورد مهم!

عندما زرت نيوكاسل المدينة المشهورة بفريقها الكروي، وجدت الإجابة. فإيرل غريه ابن المدينة أقيم له صرح وشارع. هو من نجح –بعد نضال مديد- في منح الرجال البريطانيين كافة حق الانتخاب. كان ذلك في 1832 وقبلها وخلال سبعة قرون بعد” الماغنا كارتا” ظل الانتخاب مقصورا على الطبقة الارستقراطية والبرجوازية التي لا تزيد على 4 في المائة من الناخبين! فـ”المغنا كارتا” الوثيقة التي تعاقد عليها الشعب والملك قامت على أساس “لا ضرائب بلا تمثيل” والطبقة الغنية هي من يدفع ضرائب أكثر.

بعد سبعة قرون صار من حق الرجال جميعا أن ينتخبوا، وظلت المرأة محرومة من هذا الحق إلى سنة 1928!

انتقل لنا الشاي المعطر، ولم ينتقل لنا مشروع صاحب اسم الشاي، ولا يزال العالم العربي أغنياء وفقراء ورجالا ونساء محروما من التمثيل. ولا تختلف أدوار المجالس النيابية “المنتخبة” عن جلسة احتساء الشاي. تقطيع أوقات بلا مشاركة حقيقية في صناعة القرار.

في مشروع إيرل غريه دروس أكثر أهمية من الشاي، أولها التدرج. فكل المجتمعات مرت بمراحل تفرد بالسلطة وتهميش للرجال والنساء، لكنها تطورت.

 ليس المطلوب إعادة اكتشاف العجلة والصبر ثمانية قرون. بل ترتيب الأوليات والإصرار عليها. فبدلا من كذبة “تمكين المرأة” لا بد من ضرائب عادلة بحيث يشعر المواطن بأنه شريك حقيقي في الدولة. ولا بد من تمثيل حقيقي. فالرجال الأرستوقراطيون والبرجوازيون لم يكونوا ألعوبة بيد السلطة بل انتزعوا سلطانهم في ثورة أنتجت عقدا اجتماعيا. وعندما شارك الرجال جميعا في الانتخابات كانت حقيقية لا شكلية، وجاء تمكين المرأة في سياق تطور مجتمعي مكنها من التعليم والعمل.

عودة للشاي، ثار الأميركيون على البريطانيين لأنهم رفضوا دفع ضريبة الشاي الذي يستمتع به الإنجليز، وهاجموا سفينة الشاي. فالقضية شراكة في المال أولا من خلال الضريبة وفي السلطة ثانيا من خلال المساءلة. 

لماذا وجع الرأس؟ يفضل أن تسترخي الشعوب الكسولة وتكتفي بشرب الشاي معطرا.

هل تريد التعليق؟