مقالات

“شريان الحياة” إذ تمدنا بالحياة

ونحن عالقون في العقبة جاء الخبر العاجل عن استشهاد ثلاثة فلسطينيين في غزة حاولوا التسلل، ليس لغايات المقاومة، وإنما لغايات البحث عن سبل الحياة لدى العدو. بدا الخبر عاديا خصوصا أنه تزامن مع استشهاد ثلاثة آخرين من حركة فتح في نابلس، فالفلسطيني منذور للقتل حصارا أو رصاصا، سواء كان في غزة أم الضفة، حماسا أم فتحا.

“لا” صغيرة، قالها العالم في قافلة شريان الحياة لهذا القتل اليومي. وهي غير قادرة على وقف الجريمة، لكنها قادرة على فضحها. فالمجرم ليس القاتل فقط، بل المحرّض والمتواطئ والصامت. في العقبة كان ثمة ما يشعرك بالتوازن في ظل الطغيان الإسرائيلي والهذيان الرسمي “العربي”. كل واحد من الخمسمائة المشاركين في القافلة له قصة تستحق التوثيق. تثبت أن العالم ليس بالسوء الذي يبدو.

في الغرب، شيبا وشبابا، تركوا رغد الحياة في أوج الاحتفالات في أعياد الميلاد ليعيشوا ضنك الرحيل والوقوف بالأبواب، أملا في مشاركة أبناء غزة أحزانهم وأفراحهم. كانت شموع تبدد الظلام فعلا في احتفال الكريسمس في الكنيسة الأرثوذكسية في العقبة، فمع أن جل المشاركين من الكاثوليك إلا أنهم توحدوا في سبيل غزة وصلّوا في كنيسة شرقية. 

أما الأتراك فتلك أمّةٌ عجيبة، صلابة وتحديا وحماسة، فالشيخ الثمانيني عصمت إديرم يتشبه بالصحابي أبو أيوب الأنصاري، الذي أصرّ أن يدفن في القسطنطينية، ويرى أن الحملة إلى غزة ستكون كحملة محمد الفاتح على القسطنطينية، هذا حال الشيبة فكيف الصبيان والصبايا الأتراك؟

في الحملة كانت جنا داود (ستة عشر عاما) لم تشغلها حياة الرفاه في أوهايو، وهي ليست فاشلة تبدد وقت فراغها في قضايا الكبار، بل متفوقة أنهت المدرسة مبكرا، وتستعد لدراسة الحقوق. شُرّد أجدادُها من فلسطين لكنها، وهي الأميركية الجنسية، لم تتخلَ عن أهلها تحت الاحتلال. فالعولمة والتقانة  لم تُنسِ القضية بل فتحت آفاقا للتواصل والتشبيك بين أبناء الهوية وجيرانهم وأنصارهم.

وفي ظل الإحباط من قصص الإصلاح السياسي في الأردن، شعرت بالانتعاش، وأنا أشاهد أبناء الحركة الإسلامية في العقبة، الذين تمكنوا من استنفار أبناء العقبة على اختلاف أصولهم لمواكبة القافلة وتقديم الدعم والإسناد لهم ماديا ومعنويا. جو لم أعهده من قبل. النساء في البيوت يحضرن الطعام والحلويات والشباب بين من يوزع وينظف ويتابع.

أعادوني إلى سنوات الرومانسية الحالمة في الحركة الإسلامية عندما أنشد الشباب للقافلة “سنخوض معاركنا معهم وسنمضي جموعا نردعهم..” من يصدق أن الحركة الإسلامية عندها ترفيه؟ الناس مستعدة للمبادرة والتضحية والتحرك إن وجدوا القدوة والمثال والقضية العادلة، وهذا ما تحقق في “شريان الحياة”.

أجلت الكتابة عن الموضوع أملا أن أكتب من غزة، لكنْ خاب أملي إلى الآن، ولا أفهم الهذيان الدائر حول السماح والمنع. اطلعت على الرسالة المصرية للقافلة ليس فيها شرط الدخول من العريش، وقد سبق أن دخلت القافلة الأولى من ليبيا، والثانية من القاهرة، ومفهوم سيادة الدولة الذي يعرف العالم أنك تأخذ تأشيرة لدخول البلد فتدخله من أي منفذ إلا في حال كان البلد محتلا أو يعاني من حرب أهلية ولا يسيطر على منافذه.

لا ينفصل الموقف الرسمي المصري من القافلة عن الموقف من الجدار الفولاذي تحت الأرض. ولا علاقة له بموقف شعب مصر الذي رد في تاريخه عادية التتار على الأمة في عين جالوت، وفي حاضره اقتحم خط بارليف، وحال مصر كان كما قال تركي “كنت أخجل من كوني تركيا في ظل سياسة الدولة المعادية للعرب، لكن اليوم أنا فخور بمواقف دولتي”. شكرا “شريان الحياة” لقد أعدتم الحياة حين حسبنا أننا أموات غير أحياء.

هل تريد التعليق؟