ليس مثل القضية الكردية ما يكشف غياب المرجعية الأخلاقية في السياسة الأميركية، فحزب العمال الكردستاني مصنف في تقارير الخارجية الأميركية منظمة إرهابية. مع أنه يقاتل بنفس الوسائل ولذات الأهداف التي قاتل من أجلها أكراد العراق. وهم اليوم الحليف الأوثق في العراق. غير أن محالفتهم اليوم لم تمنع بالأمس القريب وزير الدفاع رونالد رامسفيلد من زيارة صدام حسين والتقاط الصور معه وتزويده بمكونات الغاز السام الذي اتهم لاحقا باستعماله ضد الأكراد في حلبجة.
وإمعانا في تغييب المرجعية الأخلاقية والسياسية، تعامى الطيران الأميركي عن رؤية معسكرات حزب العمال الكرستاني في غضون الحرب على العراق وهي على مقربة من معسكرات أنصار الإسلام والجماعة الإسلامية التي دكها الطيران الأميركي. مع أن الجماعة الإسلامية لم تكن مدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية وهي اليوم مشاركة في العملية السياسية. ولو أن تركيا شاركت في الحرب وسمحت بدخول القوات الأميركية من أراضيها لأبصرت الطائرات الأميركية تلك المعسكرات “الإرهابية” بالتعريف الأميركي قبل أنصار الإسلام.
تقف السياسة الأميركية في العراق، وتحديدا في شماله، في وضع أقرب للتخبط، في مفترق الطريق يعني الضوء الأخضر أن في مقابله ضوءا أحمر يمنع المرور، في العراق الإشارات الضوئية الأميركية معطلة لا تسمح لأحد ولا تمنع أحدا، كيف يمكن على وقع طبول الحرب مع إيران إغضاب الحليف الكردي؟ وهو الذي سيضطلع بأدوار في العراق وفي امتداده داخل إيران.
العلم الذي يرفعه الأكراد اليوم هو علم جمهورية “مها باد” التي أقيمت في إيران وكان ملا مصطفى البرزاني وزير الدفاع فيها. وخلخلة الأوضاع في إيران تتطلب العبث بالورقة الكردية. وفي النهاية لا يمكن للأكراد وهم في أقوى مراحلهم السماح للجيش التركي بالتمدد في مناطقهم بحجة محاربة الإرهاب. وهم يعلمون المطامح التركية في كركوك والموصل.
في المقابل كيف يمكن للأميركان في ظل عقيدة “الحرب على الإرهاب” منع الأتراك من مطاردة عناصر إرهابية بالتعريف الأميركي. وحتى في ظل الحرب الباردة مع حكومة حزب العدالة والتنمية لا يمكن التفريط بحليف تاريخي بحجم تركيا يشكل قوة وازنة مع إيران التي “تهدد بحرب عالمية ثالثة” على رأي بوش.
هل يمكن تشغيل الإشارة الضوئية في إدارة بوش؟ هل يستطيع أن يقول للأكراد اتركوا الجيش التركي يصفي معاقل حزب العمال الكردستاني ونحن نضمن عدم تمدده أكثر من مقتضيات العملية الأمنية؟ هل يستطيع الجيش التركي فعل ذلك؟ وفي حال نجاح الأتراك هل سيلتزمون بالعودة إلى الثكنات أم أن مظالم التركمان ستحفزهم على البقاء؟
قد لا يكون الوضع بهذا التعقيد، يتبخر حزب العمال الكردستاني في الجبال ويتقدم الجيش التركي ويوصل رسالة داخلية وخارجية بأنه مقتدر. وبعدها ينتهي الأمر بهدنة طويلة كما كان الحال سابقا. يرجح احتمال كهذا وجود حكومة حزب العدالة والتنمية. فهي تتبنى سياسة هادئة مع الأكراد، أثبتت جدواها من خلال تصويت كثير منهم للعدالة والتنمية بعد أن كان تصويتهم حكرا على الأحزاب الكردية. ولولا الصراع مع المؤسسة العسكرية لما كان في وارد الحكومة إطلاق رصاصة واحدة.
ما جرى ويجري في عهد إدارة بوش لا يدعو للتفاؤل، فثمة استسهال في خوض الحروب، وتلكؤ في منعها. فربما يريد بوش تأديب تركيا بجرها إلى المستنقع العراقي، وفي الخلفية قرار لجنة الكونجرس بخصوص ما يزعم بشأن مذابح الأرمن.
ما يفرح الأميركيين هذه المرة أنه لن يكون لهم جنود على الأرض. وما لا يفكر به أحد هو المعاناة التي يدفع كلفتها الناس البسطاء الفقراء الذين يوكل إليهم دائما دور الضحية.
هل تريد التعليق؟