مقالات

عبد الناصر في المحكمة

نشأتُ في بيت إخواني، كان تفسير “في ظلال القرآن”، بمجلداته الفاخرة، يحتل مكانا بارزا في مكتبة الوالد التي شعر الطفل بأنها من مقتنياته. وكان من أوائل ما قرأ، عشوائيا، وربما بسبب جاذبية الصورة، كتيّب دعائي للإخوان المسلمين “لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه”، لا أنسى صورة سيد قطب، وهو مبتسم متوجّه إلى تنفيذ حكم الإعدام، وتحتها أبيات عصام العطار “ما نسينا أنت قد علمتنا/ بسمة المؤمن في وجه الردى”. وفي نهاية الكتيّب، ألحقت قصيدة هشام الرافعي “أرملة الشهيد تهدهد طفلها نم يا صغيري/ فإن هذا المهد يحرسه الرجاء”. كانت عيناي تدمعان لأني أرى في الأرملة والدتي، وفي الطفل نفسي، مع أن والدي توفي في حادث سير. 

بعيون ذلك الطفل قرأت التجربة الناصرية، ولا زلت أحاول أن أقرأها بتوازنٍ وعقل راشد، بعيدا عن عواطف طفل، فعالمنا العربي أحوج ما يكون لتعلّم الدروس بعيدا عن عقلية القبيلة التي تتوارث الأحقاد والثارات. فبعد سبعة عقود من ثورة 23 يوليو،  لا تزال الأخطاء تتكرّر، من دون الاستفادة من الدروس والتجارب، ويعيد التاريخ نفسه، على قول ماركس مرة على شكل مأساة وثانية على شكل مسخرة. أول الذين لم يتعلّموا من الدرس الإخوان المسلمون. أعادوا في السودان في ثورة الإنقاذ (ويا للمصادفة، يُحاكم عمر البشير عليها أمس بتهمة الانقلاب!) تكرار مبرّرات جمال عبد الناصر عن فساد الأحزاب وحماية وحدة البلاد وتحقيق العدالة ومقاومة الاستعمار.. لبناء حكم شمولي. 

بعيدا عن عيون ذلك الطفل الدامع الذي كنتُه، شاهدت عبد الناصر زعيما عالميا يبني معسكرا وازنا لدول عدم الانحياز، ويتحدّى الاستعمار ويقاوم الصهيونية والرجعية وينادي بالوحدة العربية، ينصف الفقراء، ويعمم التعليم ويحطّم الإقطاع والطبقية، وينشر المعرفة والثقافة للعموم.. يصل إلى دمشق فتُحمل سيارته، لا هو، على الأكتاف. وبدون إكراه، تحلّ كل الأحزاب التاريخية في سورية نفسها، من الإخوان المسلمين إلى الحزب الشيوعي إلى حزب البعث.. سعيا إلى الوحدة، ويتخلى شكري القوتلي عن رئاسة سورية لعبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة. يرسل الجيش المصري إلى اليمن، لمساعدة اليمنيين في التخلص من استبداد الإمامة.

في المقابل، وبعيدا عن عيون الطفل، وثارات القبيلة الأيديولوجية، كل تلك الشعارات والنيات الحسنة والإنجازات، هل تساوي خسارة السودان؟ من نادى بالوحدة انقلب على “ملك مصر والسودان”، وخسره بعدما أرسل ضابطا معتوها لحكم بلد بحجم السودان، تماما كما خسر سورية التي ضحّت كل نخبها وشعبها من أجل الوحدة، فأرسل لهم معتوها آخر من قادة انقلابه يحكمهم جعلهم يكفرون بالوحدة. والمعتوه نفسه بعد فشله في الحفاظ على سورية يقود الجيوش العربية لتحرير فلسطين، فنخسر سيناء والجولان وفلسطين! 

لو وضعنا جمال عبد الناصر إلى جوار البشير في قفص المحاكمة هل ستختلف دفوعه عن دفوع عمر البشير؟ لا مقارنة في الكاريزما بينهما، لكن القاضي أمامه ورق ويحكم عليه. خسر البشير جنوب السودان، وعبد الناصر خسر السودان كله وخسر سورية وسيناء والجولان والقدس. يعني لو أنه تمكّن من تحرير فلسطين في 1967 فإن الفضل لن يُنسب للجيش الأردني أو السوري، وإنما سيُقال إن المعركة قادها عبد الناصر، وهو مثل أي قائد غنمُه بغُرمه. 

تمرّ اليوم ذكرى “23 يوليو” كما كل عام، من دون أي درس نتعلمه منها، كل قبيلة أيديولوجية تحتفي بزعيهما وتطلب ثاراتها، وتكرر أخطاءها بشكل أسوأ، فانقلاب عبد الفتاح السيسي هو مجرد تقليد رديء، بطشٌ أكثر وإنجازات أقل، وحضور إقليمي بائس، فمصر لا تستطيع أن تدافع عن نيلها، وتقبل بصفقة القرن مقابل ضغط أميركي على إثيوبيا .. أيام الاستبداد الجميل، كان عبد الناصر زعيم أفريقيا بلا منازع وزعيم العالم العربي وزعيما عالميا ثائرا ضد الاستعمار. 

لا أنسى ما قاله لي الكاتب الإيراني، ما شاء الله شمس الواعظين: “تعلمت العربية من أجل الاستمتاع بصوت القرآن وأم كلثوم وخطاب جمال عبد الناصر” .. هذا عبد الناصر الذي نظل نختلف عليه.

هل تريد التعليق؟