“لا يوجد عندي هاتف خلوي!”، إجابة لم تعد تسمعها من الفقراء، بل هي إجابة تشي بأهمية صاحبها؛ فهو لا يريد من أحد اختراق خصوصيته والتواصل مباشرة معه، ولا يريد إزعاجا بلا حدود. “بإمكانك أن تأخذ خلوي السائق”!. مضى زمان كان فيه اقتناء الخلوي مؤشر أهمية وعلامة تميز.
بعد عشر سنوات على دخول الهاتف الخلوي، علينا أن نسال أنفسنا، بعد تقديم التهنئة لـ”فاست لينك” في عيدها العاشر: هل نحن بحاجة إلى شبكة هواتف خلوية؟ هل ساهمت في تطورنا.. في زيادة إنتاجنا.. في تسهيل أعمالنا.. في زيادة مداخيلنا؟
طبعا، الإجابة لا معنى لها عمليا، لأننا في الأردن نمتلك أربع شركات للاتصال الخلوي، يتزود منها المواطن بأقصى درجات الخدمة، وكأنه في بلد صناعي متطور.
نظريا، لابد أن نحاسب أنفسنا. فالأردن، البلد الفقير المدين الذي لا يجد ماء شرب (من أفقر عشر دول مائيا على مستوى العالم)، البلد الذي يعاني من أزمة وقود جعلت من التدفئة والمواصلات معاناة لأكثرية السكان.. الأردن ينفق زهاء المليار دينار، أي خُمس ناتجه القومي، على الاتصالات.
لا أتحدث عن الميسورين الذين تشكل الاتصالات جزءا يسيرا من موازناتهم، ولكن أتحدث عن فقراء ينفقون ربع دخولهم، وأحيانا نصفها على الخلوي، ويقتنون أحدث ما أنتجته الشركات من أجهزة ثمينة، في تنافس استهلاكي مَرَضي لا يعود بأي مردود اقتصادي أو معرفي، اللهم إلا الترفيه من خلال الثرثرة.
أشعر بالفخر وأنا أرى المستوى الذي بلغه العاملون في قطاع الاتصالات في الأردن، فهم رواد على مستوى إقليمي، وقل أن تجد في العالم العربي من هم في مستواهم. وظل الأردن سباقا في إدخال أحدث التقنيات، خدمة وأجهزة وبرامج،على سبيل المثال، كانت شركة فاست لينك أول شركة اتصالات في العالم العربي تدخل خدمة (G P R S)، التي تمكن المتصل من الارتباط بشبكة الإنترنت من خلال الهاتف الخلوي، وهي خدمة شكلت تغييرا ثوريا في عالم الاتصال، لكن عدد المستفيدين منها كان أقل من معدل النصف قياسا بالمستويات العالمية. في المقابل، في السنة ذاتها التي دخلت فيها الخدمة إلى الأردن، كان عدد استخدام الرسائل القصيرة في الأردن يزيد عن عددها في بريطانيا!
الآفاق التي يفتحها الجيل الثالث من الهواتف الخلوية لا حدود لها، وفي داخل الجيل تختمر ثورة لم يدرك العالم مداها بعد. العالم يتأهب لتلفزيون المستقبل التفاعلي الذي يشكل الهاتف الخلوي عماده الأساسي. المحطة التي كان امتلاكها يحتاج إلى دولة أو شركة عملاقة ستكون في جيب مواطن نكرة، من أكثر من ملياري بني آدم يمتلكون جهاز اتصال خلوي. المحطة التلفزيونية تعني ببساطة استقبال الأفلام وبثها. تلك المحطة التي ظلت من أعز خصوصيات الدولة، ستصير مشاعا لدى الأفراد.
من علامات الثورة التي تختمر ما شهدته لندن يوم تفجيرات القطارات، كان أبطال التغطية هم النكرات من حملة الخلويات، الذين زودوا كبريات الوكالات والمحطات بأفضل الصور. وكما غدت صفحات المدونات (البلوغرز Blogers) تنافس كبريات الصحف والكتاب، فإن العالم مقبل على بلوغرز تلفزيوني.
ما يهمنا في الأردن أن يكون لدينا “ثوار” يسهمون في تغيير العالم وتغيير مجتمعهم بالاستفادة من آفاق التقنية التي أتاحتها شبكات الاتصال الخلوي، لا مجرد مستهلكين يبددون شحيح الدخل في ترف لا ضرورة له. بعد عقد أو أقل، ربما نستطيع أن نحكم إن كان لدينا ثوار أم لسنا أكثر من مستهلكين سلبيين لما تقذفه لنا أمواج التطور. وساعتها سيكون من الأفضل للجميع أن يجيب: “لا يوجد عندي جهاز هاتف خلوي”.
هل تريد التعليق؟