بعد زهاء عَقدٍ في ظلمات السجن يخرج علي بلحاج إلى الشارع من جديد. ذلك الشارع الذي منحه الثقة في صناديق الاقتراع مرتين، في البلديات وفي الانتخابات التشريعية. لم يدخل السجن لأنه أراق قطرة دم، لم تكن الحرب الأهلية قد بدأت، كل ذنبه أن الشارع أراق حبرا على أوراق الاقتراع كتب فيه أسماء مرشحي الجبهة الإسلامية للإنقاذ. الجيش تدخل لكسر إرادة الناخب الجزائري بعد أن فشل في ذلك من خلال قانون الانتخابات. فأودع الفائزين السجن وألغى الجولة الثانية وأشعل شرارة حرب أهلية ذهب ضحيتها أكثر من مائة ألف.
لو كان ثمة منطق أو عدالة لكان مكان علي بلحاج رئاسة الحكومة، لا قاع السجن. بعد ظهور نتائج الجولة الانتخابية الأولى التي بشرت بفوز كاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ نقلت صحيفة الحياة عن بلحاج في سجنه إذاك: “على الجزائر أن تستعد للتحول الكبير، فليس أسوأ من أن يتحول المظلوم إلى ظالم”. أدرك وهو المظلوم في سجنه بشاعة مشاعر الانتقام عندما تسيطر على المظلوم. لم يدر بخلده أن المظلوم بانتظاره ظلم مديد.
لم يعط الدنية في سنين السجن العجاف وما تخللها من إقامة جبرية وبقي مثالا للمناضل المبدئي. في الوقت الذي مزقت البلاد حرب أهلية ارتكبت فيها أبشع الجرائم. المتهم الأول هم من أعطوا الشرعية للعنف عندما غيبوا الدستور والقانون. وفي ظل الفوضى والحرب لا يستبعد شيء. فوق ذلك صدر اعتراف موثق في كتاب ألفه أحد كبار قادة الاستخبارات العسكرية كشف عن تورط الجيش في المذابح لإلصاق التهمة بالإسلاميين. لكن ذلك لا يبرئ ارتكاب الجماعات المتطرفة لمجازر أيضا، وفي مراجعات الجماعة السلفية للدعوة والقتال اتهام صريح لكل من الأجهزة والمتطرفين بارتكاب المجازر البشعة. وليس نظاما متخلفا فقط من يقدم على ذلك، ففي بريطانيا فجرت الأجهزة الأمنية قنابل في مناطق مدنية لإلصاق التهمة بالجيش الجمهوري الإيرلندي.
سنوات عجاف يفترض أنها ولت إلى غير رجعة، والمأمول أن تبدأ السنوات السمان في الجزائر، وهي لا تبدأ إلا وفق نظرية نلسون مانديلا “نغفر ولا ننسى”. بلحاج الذي يذكر صموده بمانديلا عليه أن يكون بمستوى صفحه وتسامحه. لا بد من التحقيق في الأخطاء والمجازر ولا بد من توثيق الجرائم بموازاة الصفح والتسامح والغفران. المسألة ليست مشاجرة عائلية، هي أزمة سياسية طاحنة لا تنتهي إلا بعودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ حزبا سياسيا شرعيا بجماهيرها وقادتها.
من طبيعة الديمقراطيات الناشئة أن تضطرب المسارات بين السجون وقصور الحكم. أردوغان في تركيا نموذج قريب واضح، وفي أميركا اللاتينية وإفريقيا الكثير من الأمثلة. وبخروج علي بلحاج من السجن تلتقط الجزائر أنفاسها. وزعيم بوزنه قادر على ترشيد مسيرة التيار الإسلامي السلفي. فلا تزال قطاعات منه لا ترى في دخول الانتخابات غير منازعة لحق الله في التشريع. لا تحتكم لغير العنف في حل النزاعات الداخلية.
بعد الخروج من السجن ثمة سؤال كبير، ماذا لو جرت انتخابات الدور الثاني وشكلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحكومة في مطلع التسعينات؟ هل كانت ستدفع الجزائر الثمن الذي دفعته عقب إلغاء النتائج؟ سؤال لا يخص الجزائر وحدها. وعلى قادة الجيش الجزائري المتقاعدين اليوم أن يخجلوا وهم يشاهدون الجيش الإسرائيلي لا يتدخل بعد فوز حماس. وهو جيش احتلال لا جيش تحرير وطني.
هل تريد التعليق؟