لا تستطيع أن تترك كتاب “محطات في المسيرة التربوية”، سيرة التربوي فاروق بدران من دون أن تكمله، ليس بسبب غناه الثقافي والتاريخي والتربوي وعذوبته وعفويته ورشاقة لغته، وإنما لارتباطه بالأحداث الساخنة المرتبطة بحراك المعلمين. فالسيرة ترصد حكاية التربية والتعليم في الأردن قبل عهد الإمارة إلى اليوم.
في حديثه عن والده “العثماني” نعرف كيف كانت النخب النادرة التي أتيح لها التعليم في تلك الحقبة منتمية لأمتها، فالوالد الذي كان يتحدث الفرنسية والتركية ( لغة السلطة)، أصر على الحديث بالفصحى داخل البيت، وهي عادة أورثها لأولاده. وفي السيرة لوحة مشرقة للجيل الذي شاد بنيان التربية في البلاد.
لم يكن ذلك الجيل “تنظيما” قاد انقلابا، ولا كائنات فضائية هبطت على الناس، تلك نظرة استشراقية بائسة. الصحيح أن تربويين أكفاء من اتجاهات فكرية متنوعة جزء منها إسلامية، تمكنوا من تحقيق أفضل نتائج ممكنة ضمن الموارد الشحيحة المتاحة. وهذه حقيقة أكدها تقرير البنك الدولي الذي درس أربعين سنة ماضية في المنطقة أظهرت أن الأردن الأفضل عربيا وإسلاميا. في السيرة يرصد إنجازات رجالات التربية محمد أمين الشنقيطي وحسن الكايد وبشير الصباغ وإسحق فرحان ومضر بدران ونوري شفيق وسعيد التل وغيرهم.
لا يتحدث الإسلاميون بنرجسية عن تلك الشهادة، رغم تشنيع الخصوم الذين يتهمونهم باختطاف وزارة التربية. في سيرة بدران نكتشف أنه أخرج من الخدمة في وزارة التربية قبل وصول سن التقاعد، وأن الذي فزع له ليس الإخوان المسلمين وإنما صديقه التربوي الدكتور سعيد التل الذي قاسمه سهمه في الكلية العربية وكلفه بإدراتها.
والقيادات الإخوانية في التربية (للدقة فكثير من الإسلاميين ليسوا أخوانا) لم تكن على قطيعة مع العالم الحديث، بل إن أبرز ثلاثة (إسحق فرحان وعبداللطيف عربيات وفاروق بدران) خريجو جامعات أميركية. ولم يكن قادة التربية معادين للغة الإنجليزية ولا مهووسين بها، فهو يروي كيف أجرى من سبقوه اختبارا على تدريس العلوم باللغة الإنجليزية وإن كان يقوي لغة الطلاب بها فاكتشفوا بعد سنة من الاختبار على مدرستي كلية الحسين وسكينة أن الأفضل التعليم بالعربية !
وفي الجامعة الأردنية عندما تولى إدارة العلاقات العامة قرر أن ينتج فيلما عن الجامعة الأردنية والذي صور الفيلم عدنان العواملة، وذهبوا لإتمام الفيلم في لندن عام 1977! لم يكن عدنان مفتيا ولم يذهبوا للسعودية لإنتاج الفيلم، هذه الروحية هي التي أوصلت العواملة إلى جائزة الإيمي التلفزيونية والتي تعادل الأوسكار في السينما. وعندما تولى قسم الامتحانات بالوزارة انتدب لدراسة نظام الامتحانات في بريطانيا.
المصابون برهاب الإسلاميين عليهم أن يقرؤوا السيرة، ومن حسن حظي أني عرفت صاحبها قبل أن أقرأها، وقد كان رئيسا لقسم المناهج الذي كان والدي عضوا فيه، وشهادتي فيه وفي الكتاب مجروحة، فقد عرفت ابنه الصديق محمد في كلية الحسين التي كان واحدا من طلابها ووالده من كبار مسؤولي التربية، وهو الآن من أبرز أطباء الأشعة التدخلية في بريطانيا، وابنته إيمان المدرسة في كلية الطب طبيبة أطفالي. وفي السيرة نلحظ الموقف المتحضر من المرأة من خلال دور زوجته في العائلة والمجتمع. وباختصار فإن نجاحه التربوي يتجلى في عائلته الصغيرة تماما كما في عائلته الكبيرة ( التربية والتعليم).
في خاتمة كتابه يتحدث عن تقسيم علماء الاجتماع لثلاثة عوالم تحدد هوية الإنسان من الأدنى إلى الأعلى: الأشياء والأشخاص والقيم، والمتحضر من يعيش في عالم القيم. وما أحوجنا هذه الأيام إلى عالم من قيم يتصدره حراس القيم أي المعلمون.
هل تريد التعليق؟