تصلح تونس نموذجا لدعاة التيار الاستئصالي، فعلى رغم اعتدال الحركة الإسلامية ممثلة بحزب النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي في الفكر والممارسة إلا أنها لم تجد لنفسها مكانا تحت الشمس. وأبناء الحركة مشتتون بين السجون والمنافي. وخلافا للحرب التي شنتها أنظمة مثل مصر وسورية على الحركة الإسلامية كانت حرب النظام التونسي حرفية معقدة.
شكل “المثقف الواشي” بحسب تعبير الكاتب حازم صاغية رأس حربة للنظام. وغدا اليساريون المتقاعدون جندا محضرين في أجهزة الأمن يستخدمون موروثهم الأيديولوجي وثاراتهم الحزبية لتصفية التيار الإسلامي. وغدت تونس تحتل موقعا ثابتا في تقارير منظمات حقوق الإنسان.
ولم يعرف العالم العربي منعا للباس الشرعي إلا في تونس، بذريعة أنه “زي طائفي” في بلد إسلامي ! بالنتيجة لم ينته التيار الإسلامي. في بلد أوربي قابلت شابا تونسيا عشرينيا، واستغربت من توجهه الإسلامي العميق مع أنه من جيل نشأ بعد ضرب الحركة الإسلامية. سألته : كيف عرفت الحركة الإسلامية ؟ قال نحن مثل المسلمين في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق عندما كانوا يحفرون ملاجئ تحت الأرض لحفظ القرآن. في السكن الجامعي كنا نقيم حراسات ونضع الأثاث وراء الباب حتى لا يكتشف الوشاة أننا نصلي جماعة.
على هامش ضرب التيار الإسلامي المعتدل نما التيار السلفي الجهادي، وقد كتب المثقف التونسي صلاح الدين الجورشي عن هذه الظاهرة التي أخذت منحى مسلحا غير مسبوق. نشر مقال الجورشي قبل أن يقوم تنظيم القاعدة باختطاف السائحين النمساويين في تونس. وهو ما كشف عن قدرات عملياتية للتنظيم، خطفا وتصويرا ونشرا ومفاوضة.
لم تكن تونس قبل ضرب الحركة الإسلامية المعتدلة تعرف هذه الظاهرة. وهو ما يمكن مقاربته مع ما شاهدناه هنا بعد اتجاه العلاقة بين الحركة الإسلامية والدولة إلى المواجهة. فالتيار السلفي الجهادي ازدهر بعد العام 1993 مستفيدا من حال التراجع الديمقراطي.
يظل الوضع في الأردن أفضل كثيرا لأن القمع أقل كثيرا، ومع ذلك فإن القاعدة لا تتخلف: ضرب الاعتدال يقوي التشدد. فالاعتداء على السائح الألماني حتى لو كان بفعل مهووس يعبر عن ثقافة معادية لكل ما هو غربي. وإلا كان المهووس وجد أهدافا أخرى في طريقه.
في أعرق الديمقراطيات يبقى للعنف وجود، وإطلاق الحريات العامة لن يمنع العنف بشكل كامل، بقدر ما يحصره في أضيق نطاق. نسبيا يمكن المقارنة بين تونس والأردن، ففي عمان كان العمل فرديا معزولا بأداة بسيطة، في تونس فإن العمل جماعي مركب.
يستحيل وضع حارس لكل سائح، ومن السهل إشاعة ثقافة السلم التي تحترم الآخر سائحا أم تاجرا أم طالبا..، وهي ثقافة لا تتعارض مع ثقافة الجهاد التي تقاتل المعتدين والبغاة. في العام 1990 كان أول طعن لسائح في عمان بدوافع حرب الخليج الثانية، وإلى اليوم تتكرر الحكاية، وهي تشبه بمحدوديتها حوادث العنصرية التي يتعرض لها المسلمون في أعرق الديمقراطيات.
هل تريد التعليق؟