في الاستطلاع السنوي الذي يجريه مركز الدراسات الاستراتيجية حول الديموقراطية يتكرر دائما أننا “لا نزال في منتصف الطريق”. هذا الانطباع العام لا يبدو دقيقا. فثمة تراجع جوهري يمكن ملاحظته في الانتخابات البلدية حتى بالقياس على ما قبل 1989. والحريص على الديموقراطية تغدو أولويته وقف التراجع لا تحقيق التقدم.
لا أريد الخوض في تفاصيل اليوم الانتخابي وما سبقه وما تلاه، ولكن أطل من بعيد على منحنى الديموقراطية صعودا وهبوطا. فالانتخابات البلدية قبل العام 89 كانت أكثر تعبيرا عن تطلعات الناس ومصالحهم. وكان المرشح لرئاسة البلدية مشروع زعامة حديثة يتحدى القديم ويتجاوزه.
كان التقليديون يبحثون عن الجامعي والمثقف والمسيس لتقديمه والتباهي به أمام الدولة وباقي العشائر، لا أن تبحث الدولة والنخب المرتبطة بها عن التقليدي لتحطم القوى الحديثة. باستثناء الإخوان المسلمين كانت الأحزاب تعمل تحت الأرض. وعدم شرعيتها الرسمية لم يحل دون أن يكون لها حضور فاعل في المجتمع. وقد تجلى ذلك بوضوح في النقابات المهنية والعمالية. وحتى الإخوان المسلمون كانت مساحة حركتهم محدودة جدا ومضبوطة في ظل غياب الإعلام والأحزاب ومجلس النواب.
في عقدي السبعينيات والثمانينيات شكلت البلديات والنقابات فرصة لتحقيق تنمية سياسية معقولة مكنت من دخول عقد التسعينيات بمؤهلات محترمة.
في عام 1989 لم تَحْتجْ الأحزاب اليسارية والقومية المحظورة إلى ترخيص لتشارك في الانتخابات بل كان حظرها هو عنوان حملتها الانتخابية. وكان لديها قياداتها في النقابات المهنية والعمالية ورابطة الكتاب التي نافست باقتدار وتمكن بعضها من الوصول إلى قبة مجلس النواب. كان الإسلاميون وقتها حديثي عهد بالنقابات، اليسار والقوميون هم من أسسوا العمل النقابي، وهم الذين كانوا النواة الأساسية للتجمع الديموقراطي من بعد. وهو تجمع كاد يكون حزب حكومة طاهر المصري.
لم تكن البلديات تحت سيطرة الإخوان المسلمين، كان لديهم بلدتيان مادبا برئاسة أحمد قطيش رحمه الله، وإربد برئاسة الطبيشات. على صغر بلدية مادبا مكنت مهندسا شابا مثل أحمد قطيش من أن يكون زعيما وطنيا، فنجاحه في مدينة مركبة عشائريا وطائفيا وإقليميا انعكس على أدائه نائبا للأمة لا للبلدة أو العشيرة. لم يكن معنيا بشق طريق زراعية لمتنفذ في مادبا ولا في تدبير خط باص لخزان أصوات انتخابية، كان رئيس لجنة الحريات العامة بجدارة، وقد اطلعت على ملفاته ومداخلاته في حياته النيابية القصيرة فما وجدت فيها منفعة شخصية، بل كان جل علمه معالجة آثار الحقبة العرفية وهي آثار عانى منها في المقام الأول خصوم الإسلاميين.
رئيس بلدية مأدبا، في أول جلسة موازنة في حكومة مضر بدران، لم يقل ان قرى الأزايدة بحاجة إلى مطار دولي، تحدث عن الانتماء مستشهدا بقول الشاعر
لا أذود الطير عن شجر بلوت المر من ثمره
وحتى اليوم لا يذود المواطن الطير! كان رحمه الله يعرف من خلال مخالطته اليومية للفقراء البسطاء أن الاغتراب وغياب الانتماء ليس مرضا جينيا وإنما ردة فعل لمرارة الثمرة.
كسب الأردن بقدر ما كسب الإخوان زعيما بمستوى أحمد قطيش عندما احترمت الدولة في الفترة العرفية خيار الناس. في الشمال كانت حال معاكسة. فاز برئاسة بلدية إربد الدكتور عبدالرزاق طبيشات، وأثبت نجاحا مشهودا جعله خيارا للدولة بعد أن غادر صفوف الإخوان. ظل وزير بلديات على تبدل الحكومات.
ربما أسعف الخوض في تفاصيل الماضي في تفسير تفاصيل الحاضر، والمأمول أن لا تكون الانتخابات النيابية المقبلة بمستوى الانتخابات البلدية حتى يذود المواطن الطير عن شجر وطنه. فلا يجوز أن يكون معيار الحياة السياسية الوحيد هو محاربة الإسلاميين، فهم لن يجدوا وطنا آخر يهاجرون إليه.
هل تريد التعليق؟