جاء المريد إلى شيخه الحذّاء في زحمة السوق، وقد مزقه إقبال نفسه على الدنيا وشوق روحه إلى مقامات علا. تلك التي بلغها شيخه الذي تجري على يديه الكرامات، والشيخ منشغل في إصلاح أحذية الناس التي أنهكها السعي في الأرض، وذاهل عن متطلبات إصلاح روح مريده التائقة إلى التحليق في السماء. حدق المريد في وجه شيخه الذي يضرب بمطرقته الخفيفة على السندان وقد تجسد تمزقه في مطرقة الروح وسندان الجسد. <br/> <br/>عرف الشيخ مراده، فقال له عرَفتك الطريق إلى الله، وهو لمن صدق لا لمن سبق، وكما تجد الناس وتجتهد في السوق وتلهث وراء الشهوات المزدانة، جد واجتهد وستصل إلى المقامات العلا. <br/> <br/>على الفور ودع المريد شيخه لينقطع في هجرة إلى الله بعيدا عن زحمة السوق، فلو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا “ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”. هام في وديان التراب وقلّب وجهه في السماء، عندما خلا إلى نفسه وانقطع إلى الله، اغتنت روحه، وتحولت القفار إلى ذهب، وازدهى في جوف الليل يتحدى: من أغنى مني؟ لماذا ينهكون أنفسهم في التنقيب عن الذهب وهو مذخور في نفوسهم؟ <br/> <br/>سأعود إلى شيخي، لقد ارتقيت وبلغت المراد، ها أنا أشعث أغبر لم أذق لذة ولم تقع عيني على منكر، ولكن أين كرامتي؟ أي خوارق العادات التي تجري على يد ولي. كان يتأمل صفاء النبع المتدفق من الأرض ويخال روحه صافية وكأنها الماء العذب الذي لم يتكدر، وفي الجوار جرة مكسورة تذكره بجسده الذي انتصر عليه، سأملأ الجرة بالماء. وتضرع إلى الله وهو الأشعث الأغبر: إن كان لي كرامة فلا تجعل الماء يسيل من الجرة المكسورة. فكان له ما أراد. <br/> <br/>حمل جرته المكسورة التي لا يسيل منها الماء، وعاد مبتهجا إلى شيخه، وصل السوق وشعر بالغربة،على ماذا يلهثون؟ وصل محل شيخه مزدهيا بالجرة التي تؤشر إلى أي مقام ارتقى في هجرته، وبدأ يحدث الشيخ عن أحواله وما ارتقى إليه وعينه على الجرة المكسورة التي لا يسيل منها الماء. فقد غدا صاحب كرامة. <br/> <br/>كان الشيخ الذي يعرف أسرار الروح فخورا بمريده، لكنه يدرك أن القلب من التقلب وأن الروح كما الطيرالمحلق الذي قد تغويه دودة الأرض فينحدر من عليائه طمعا فيها. في الأثناء دخلت سيدة تريد إصلاح حذائها وشمرت عن ساقها، فاسترق المريد نظرة لزينة افتقدها في هجرته، انساب الماء من الجرة المكسورة، لم تعد له كرامة! هاهو لاهث في الزحام وراء اللذة مثله مثل من انقطع عنهم واستعلى عليهم في هجرته. تبسم الشيخ وقال له “يا بني العبادة بين السيقان وليس بين الوديان”! <br/> <br/>الحكاية المشهورة في الأدب الصوفي تلخص قصة الصيام، أن تمتلك وتزهد لا أن تفتقر وتدعي الزهد. فأنت ترى الطعام ولا تتناوله ولست في مجاعة تتضور. وقيمة الصيام أن تزهد لا أن تزداد تعلقا بالملذات حتى المشروع منها. <br/> <br/> في كل رمضان يلح علي سؤال: هل يصوم الفاسدون؟ هل يدركون أن الموت موعد مؤجل ينتظرهم بشكل مفاجئ وليس بشكل منتظم كما أذان الفجر؟ هل يحسون أن الجسد يحتاج القليل وشربة ماء ترويه؟ أم يزدادون شرها لأن الحياة قصيرة؟ ولا بد أن نملك وديان الذهب في أقصر وقت؟ هي قصيرة عندما تكون بحجم جرة مكسورة من صلصال كالفخار، كما كان الإنسان قبل أن تنفخ فيه الروح الممتدة التي سجدت لها الملائكة. <br/> <br/>كم هو بغيض شرههم، وكأنهم يريدون حيازة الدنيا ما بين طلوع الشمس ومغيبها، ولا يعزيك إلا أن التراب سيملأ جوفهم ولو ملكوا وديان الذهب وأكلوا اليابس والأخضر، وتحمد الله أنك لست منهم. تكفيك شربة ماء لا يشعر أحد أنك سرقتها منه. أما معين الروح فلا ينضب ولا تملؤه جرار. <br/> <br/></p></div></h4> |
هل تريد التعليق؟