الملايين تأسرهم سير الأبطال الضحايا. هذه هي الطبيعة البشرية؛ من كان سيرسم صورة تشي جيفارا على قميصه لو لم تقتله وكالة المخابرات الأميركية؟
كتبت مجلة “الإيكونومست” بعد الانقلاب في مصر، أنه خدم الإخوان المسلمين، لأنه أعادهم إلى دور الضحية الذي يتقنونه. وكان يتوقع من الانقلابيين أن يكونوا أكثر ذكاء في قمع الإخوان، لكن الأشهر الماضية أظهرت غيابا كاملا للعقل، ليس بالفض الدموي لاعتصامي “رابعة” و”النهضة” والمظاهرات، بل وفي القضاء الذي يفترض أن يمثل أقصى درجات العدالة والرصانة والاتزان.
يسجل التاريخ الكثير مما يثير السخرية في أحكام ذاك القضاء، ليس آخرها أن أحد المحكومين في قضية الإعدام متوفى من ثلاث سنوات، بقدر ما يسجل مفاخر الأبطال الذين تلقوا الأحكام الظالمة بشجاعة نادرة. وسيذكر التاريخ محمد بديع الذي قال بعد صدور حكم الإعدام، بحسب ما ينقل محاميه أسامة محمد مرسي: “لو أعدموني ألف مرة والله لا أنكص عن الحق. إننا لم نكن نهذي حين قلنا إن الموت في سبيل الله أسمى أمانينا. اللهم فاقبل.. اللهم فاقبل”.
في جلسات المحاكمات الماراثونية في القضايا العديدة التي لُفقت ضده، ظل بديع صلبا صامدا متماسكا رصينا. وهي صفات من المفروض أن يتحلى بها القاضي لا المتهم؛ ينظر للسلمية ويشدد عليها: “سلميتنا أقوى من الرصاص”. ولم تسجل عليه لحظة استفزاز أو وهن. لخص حكايته مع الدولة، قضاء وعسكرا، بقوله للقاضي عندما قال له الأخير أنا أجلس على هذا الكرسي وأعرف معنى العدل: “أنا أجلس في هذا القفص من الستينيات وأعرف معنى الظلم”. وقف إلى جوار سيد قطب وسمع نطق حكم الإعدام الذي قابله بالابتسامة، وكان وقتها شابا معيدا في الجامعة.
تختلف مع المرشد ومع الجماعة كثيرا في الأفكار والسياسات والأداء. لكن أخلاقيا، في ظل المجزرة المروعة بحقه شخصيا سواء بقتل ابنه المهندس عمار أو بضربه وسجنه والحكم عليه بالإعدام مرتين، أو بحق التنظيم والتيار الذي يقوده، لا تملك إلا أن تتضامن معه بالمطلق، وتفخر بوجود قامة مثله في ظل الخور السياسي وضعف النخب السياسية وانهيارها؛ سواء بالرشى ترغيبا أو بالتهديد ترهيبا.
في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات وتسجيلات تناقض صورة الشيطنة التي حاول إعلام الفلول رسمها للعالم البيولوجي الوقور الذي يصنف واحدا من أهم مئة عالم عربي. في فيديو، يروي كيف خطب وهو في السجن، وكيف تيسرت أموره بالإفراج والزواج والتعويض لاحقا في قدرية عجيبة. وتسمع المرشد في تسجيل أثناء السجن أيام حسني مبارك يُنشد مع شباب الإخوان “حتفرج حتفرج.. بإذن الإله حتفرج.. وننعم بنور الحياة”.
لقد جنّ الانقلابيون لأن تنظيم الإخوان تطور ونما بعد اعتقال القيادات، واتسع حضوره الجماهيري في مظاهرات لا تتوقف يوميا. لكن ما هو أهم من ذلك أن يتجاوز الإخوان دور الضحية. إذ إن المنتظر منهم أكثر من ذلك؛ فهم القوة الأساسية المعول عليها الصمود في وجه الانقلاب. وهذا يتطلب تجديدا في الفكر والسياسة، بحيث تؤطر الأكثرية الرافضة للانقلاب، وهم جمهور الشباب في مصر، في جهد منهجي لبناء فكرة الدولة العادلة، بموازاة دك “دولة الباطل” التي تجسدها أحكام القضاء المصري.
لا نحب للمرشد أن يموت في سبيل الله، فالموت حق مكروه يصبر عليه المؤمن. نحب له أن ينعم بنور الحياة، في سبيل الله أيضا.
هل تريد التعليق؟