في العام 1994 عندما انشغل التلفزيون الأردني باحتفالات “السلام” مع الإسرائيليين كان تلفزيون العدو يبث بالأبيض والأسود معارك الإسرائيليين وانتصاراتهم علينا.
لست هنا بوارد نقد إعلان واشنطن ومعاهدة وادي عربة، وعلى فرض أنهما حققا “السلام العادل الشامل الذي ترضى به الشعوب”، هل ثقافة السلام تعني ثقافة الهزيمة وإلغاء التاريخ وأن ثقافة المقاومة تعني ثقافة الإرهاب؟ قطعا لا. فحتى في جنوب أفريقيا التي يؤمل ان ينتهي الصراع في فلسطين كما انتهى فيها، أي نهاية النظام العنصري وعودة البلاد إلى أصحابها، لم تطوَ صفحة النضال. وقال الفائز بجدارة بجائزة نوبل للسلام نيلسون مانديلا كلمته التاريخية “نغفر ولا ننسى”.
مع توقيع المعاهدة مع الإسرائيليين درجت لغة سمجة تعدّت الإعلام إلى التربية والتعليم حول ثقافة “السلام”، وهي في جوهرها لا علاقة لها بالسلام بقدر ما هي وثيقة الصلة بالهزيمة.
يجهل المبشرون بالثقافة المحلية بدعوى السلام أنهم يخالفون الدستور أولا الذي يعرف البلاد بأنها “جزء من الأمة العربية” وأنهم ينشئون جيلا لا يعرف ذاته. فزهاء نصف السكان لاجئون ونازحون هؤلاء ليسوا زبد بحر قذفهم الموج. هؤلاء كانوا في يافا وعكا وبئر السبع والقدس ونابلس.. وما تزال جداتهم يروين القصص عن البلاد. ومع أن الأجداد لم يولدوا أردنيين واكتسبوا الجنسية بعد 1950 إلا انهم صاروا أردنيين من أصل فلسطيني كفل لهم القانون الدولي حق العودة إلى ديارهم.
في المقابل على الطفل الأردني أن يعرف أن هؤلاء اللاجئين ليسوا عُمّالاً مهاجرين ينازعون والده على الوظيفة، بل إن دستور بلاده كتبه ابن نابلس إبراهيم هاشم، وأن أقاربه الذين استشهدوا في القدس لم يكونوا موظفين في شركةٍ أمنية بل كانوا جنودا وضباطا في “الجيش العربي” قاتلوا إيمانا واحتسابا. وأن من قضى في الضفة الغربية بعد الوحدة قاتل دفاعا عن وطنه بالمعنى القطري، فمحافظات الضفة الغربية لم تكن تختلف عن محافظات الضفة الشرقية لا في الدستور الأردني ولا في القانون الدولي.
اصمتوا.. لا تزعجوا الإسرائيليين بهذا الكلام. التاريخ بدأ في 94، وهم جيران مثل السوريين والعراقيين! هذه الثقافة التي يراد أن تعمم على الإعلام والتربية والتعليم والجامعات وغيرها. تلك الثقافة لا تصنع سلاما بل تفرض استسلاما.
شكّل اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية فرصة لمواجهة ثقافة الهزيمة وتعرية العدو. فهو الذي يمنع أطفال المدارس من إطلاق البالونات ابتهاجا بالمناسبة، وقد جاءت الاحتفالية على وقع حرب غزة التي كثفت مشهد الصراع وأحيته؛ شعب شقيق ضحية مقاوم وعدو محتل يمارس العدوان والإرهاب. وبدا أن أكثرية الناس الساحقة على اختلاف أعمارهم وأوضاعهم الاقتصادية وآرائهم السياسية معنيون بالقدس. وعبروا عن ذلك بالمسرحية والأغنية واللوحة والندوة والمهرجان.
عندما يقرر محافظ إربد عدم الموافقة على احتفال لحزب حشد، ضمن فعاليات القدس عاصمة ثقافية، يعبر عن تلك الثقافة المحلية. وهو إذ يعتمد على “قانون الاجتماعات العامة” يكشف لنا حجم المزاجية التي يمنحها القانون للمحافظ في تقرير كيف يجتمع الناس بناء على حقهم الدستوري.
لا يتوقع من الموقف الرسمي أن يسابق أحزاب المعارضة في التصدي للخطر الصهيوني، ولكن مطلوب منه أن لا يتصدى للجهود المجتمعية التي تتصدى له. ومهما وقّع من ورق مع الإسرائيليين من كامب ديفيد إلى اليوم فذلك لا يغير الطبيعة العنصرية للصهيونية التي لم يتخل عنها الإسرائيليون. فالصهيونية هي ثقافة إرهابية و فكرة عنصرية قبيحة، والرد عليها لا يكون بثقافة عنصرية بل بثقافة إنسانية تعبر عن الحضارة العربية الإسلامية التي تعاملت مع اليهود باعتبارهم تنوعا يثري لا ورما يستأصل.
إلغاء التاريخ لا يصنع سلاما بل يحاول فرض استسلام لرواية الخصم كما الاستسلام لدباباته. وهذا لا يتحقق لا بعهد بيغن ولا بعهد نتنياهو.
هل تريد التعليق؟