مرت أمس ذكرى استشهاد المفكر الإسلامي سيد قطب، والذي أعدمه الرئيس جمال عبدالناصر. وتمر الذكرى في أجواء حفاوة من الإسلاميين، كما أجواء إنكار من الناصريين، بدون مراجعة من الطرفين. وهو ما يعني أن الصراع بينهما سيتواصل. وما تشهده مصر اليوم من تظاهرات، يُمكن أن يقرأ في سياق تلك المواجهة قبل أربعة عقود.
هذه مرحلة سيد قطب الثورية التي عبر عنها في “معالم في الطريق”؛ ذلك الكتاب الذي وصفه شقيقه محمد بالنشيد. عندما أشاهد ما وثقته الكاميرات في مجزرة “رابعة العدوية”، أتذكر ذلك الفصل من “المعالم” الذي كدت أحفظه غيبا عن قصة أصحاب الأخدود:
“إنها قصة فئة آمنت بربها، واستعلنت حقيقة إيمانها. ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق “الإنسان” في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق!
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تفتن عن دينها، وهي تحرق بالنار حتى تموت.
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيرة الرفيقة الكريمة، كانت هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة. وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار، يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون. جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار، والأناسي الكرام يتحولون وقودا وترابا. وكلما ألقي فتى أو فتاة، صبية أو عجوز، طفل أو شيخ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء!”.
المفكر الثوري لا يعيش بين الكتب؛ هو نتاج واقعه زمانا ومكانا. فسيد قطب الذي نظّر لتصدي الطليعة المؤمنة للطغمة الجاهلية، هو ذاته من ناصر ثورة يوليو 1952، وكان لسانها في الإذاعة المصرية. والصدام مع المشروع الناصري بدأ سياسيا وشخصيا، وانتهى فكريا وثقافيا. عبدالناصر وأكثرية الضباط الأحرار كانوا من الإخوان، وعندما تصادم عبدالناصر معهم في صراع على السلطة، لم يكن له في البداية مشروع فكري يختلف عنهم، وكتاب فلسفة الثورة ونظرية الدوائر الثلاث مأخوذة عن رسائل البنا. وكذلك هو الخلاف السني-الشيعي الذي بدأ سياسيا على السلطة، وانتهى عقائديا.
سيد قطب هو صاحب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” ردا على موجة الماركسية. كان يرى أن في الوعاء الحضاري العربي الإسلامي ما يتقدم على النظرية الماركسية في تحقيق العدالة. وهو صاحب “الإسلام والسلام العالمي”، حيث قال إن من مصلحة العالم بقاء المعسكر الاشتراكي لتحقيق التوازن مع المعسكر الغربي الرأسمالي. وعندما أعاد الإخوان طبع الكتاب في ظل الجهاد الأفغاني، حذفوا هذا الفصل خشية أن يشوش على المعركة مع الاتحاد السوفيتي.
يُظلم سيد قطب من محبيه وشانئيه عندما يلخص في كتيب “المعالم”، وأكثرهم لم يقرأ غيره، ولم يتعرف على مفكر موسوعي، سواء في مجلدات “في ظلال القرآن” الثمانية، أو إرثه الفكري والأدبي. والمعالم في النهاية هو صرخة في وجه طاغية؛ صرخة أديب ومفكر يتحدث بلغة تعبوية ساحرة. هكذا يُقرأ. تماما كما لا يُقرأ عبدالناصر من خلال إعدام سيد قطب. فهو اصطدم مع الإخوان، لكنه تبنى نظرية الدوائر الثلاثة، والعدالة الاجتماعية، والسلام العالمي وعدم الانحياز. كان طاغية لا يؤمن بالديمقراطية، لكنّ له مشروعا عالميا وعربيا.
أدب المحنة الذي أنتجه سيد قطب في تلك المرحلة هو ذخيرة الإسلاميين هذه الأيام.
هل تريد التعليق؟