مقالات

في صناعة الهوية.. الشماغ فلسطينياً وأردنياً وخليجياً

ليس في العالم هويات ناجزة تولد مع الإنسان، يجري تصنيعها لتصبح أكثر صلابةً مما يرثه الإنسان من جينات. وتشكل الملابس جزءاً مهماً في تلك الصناعة. ويمكن القول إن أبو عمار (ياسر عرفات) نجح في صناعة الشماغ المعرق باللون الأسود رمزا فلسطينيا جامعا، مع أنه لم يكن قبل أن يتميز به مؤسس حركة فتح رمزا للفلسطيني. وكان يُرتدى على نطاقٍ واسع في العراق والأردن وسورية. طوّر الشماغ ليصبح أكثر عملية، وصار شالا يلف حول الرقبة، رمزا يرتديه الفلسطينيون ومن يتعاطف معهم. والواقع أنه لم تكن ثمّة هوية فلسطينية واضحة قبل المشروع الصهيوني، فهي تشكلت نقيضا له، وقبله كانت فلسطين جزءا من بلاد الشام ثقافيا وحضاريا ووحدة سياسية وإدارية. في العصور القديمة، يصعب وضع خط فاصل بينها وبين الأردن وسورية ولبنان، وفي العهد العثماني ظلت شامية. وبانهيار الإمبرطورية العثمانية، اجتمع أهل بلاد الشام في المؤتمر السوري الأول الذي ضم (الأردن وفلسطين وسورية ولبنان) لم يكن يومها حضور للشماغ الفلسطيني، ولا الأردني، تشاهد في الأرشيف صور طرابيش وعمائم وشمغ وعقل منوعة الأشكال والألوان.
في فلسطين، كان الشماغ بألوانه كما بلاد الشام لباسا للريف والبادية. في مدينة الخليل مثلا كانت العمامة هي السائدة، وباقي المدن كان الطربوش. ويبدو أن شماغ عرفات المعرّق باللون الأسود هو امتداد لرمزية الثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936 التي تميّزت بأنها ثورة فلاحين، فكان الشماغ بمعزل عن لونه رمزا ثوريا في مقابل طرابيش الأفندية من أهل المدن.
المؤكد أن الشماغ الأحمر لم يكن موجودا قبل تأسيس البريطانيين قوة البادية وحرس الحدود في الأردن. والذي بدأ زيا رسميا للجيش العربي في الأردن، وعمم لاحقا على الجيش السعودي. ومثل ملابس الجيش الرسمية (بدلة الكاكي والمعطف العسكري “الفيلدا” والبسطار..) انتشر مدنيا. ولم يكن قبلها زيا للعائلة الهاشمية، فلباسهم كان العمامة الحجازية، والشماغ الأبيض، والعقال الذهبي المقصّب. ارتدى الملك حسين الشماغ الأحمر زيا رسميا، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة ابتداء، وفي المناسبات المدنية كان يرتدي الشماغ الأبيض. بعد 1970، تبلور الشماغ الأحمر رمزا أردنيا، وصار الملك حسين يرتديه مع البدلة المدنية. وكذلك رئيس وزرائه وصفي التل. ومع الوقت، تطور بشكل شال يلفّ حول الرقبة للرجال والنساء رمزا للهوية الأردنية.
تشبه حكاية الشماغ الأردني حكاية نظيره الخليجي، فقبل البريطانيين لم يكن ثمّة شماغ أحمر، وتنوعت الملابس مناطقيا، فأهل الحجاز لا تزال العمامة رمزا لهم، وكذلك أهل عمّان. والمناطق المتاخمة لليمن يرتدون العمامة اليمنية. والمناطق الساحلية كذلك. والشماغ ظل تاريخيا لباس القبائل البدوية بألوانه المتعددة غير الأحمر.
في عالمنا العربي الذي يشهد تفكّكا على مستوى الدولة الوطنية، وحروبا أهلية لا تتوقف، استخدمت الرموز ألغاما وقنابل موقوتة، واستخدمت أدواتٍ فاشيةً للتعالي على الآخر. مع أنه يجدر في هذه المرحلة إبراز المؤتلف وتغييب المختلف، فالشماغ يشكل رمزا عربيا بالمجمل، فلا يرتديه غير العرب، وهو أوضح ما يكون في الشماغ الفلسطيني في مقابل القلنسوة الصهيونية. وتبقى الهوية العربية ملونةً منوعةً بقدر ما هي جامعة، مرنة مفتوحة تتسع، ولا تضيق تتكيف وتتطور لا تجمد. وبذلك تستمر، وتبقى، وبغير ذلك، تتفتت وتنقرض وتفنى.

هل تريد التعليق؟