يأخذك وهج الثورة فتضيع التفاصيل. ويتلخص المشهد بين الضحية البوعزيزي في الفصل الأول والديكتاتور الهارب بن علي. وتضيع أكثر فصولها ملحمية. ولولا الصبر والمصابرة والمرابطة التي تحلَى بها الثوار، لانطفأت شرارة سيدي بوزيد بدفن الشهيد الأول في الثورة.
يدرك التوانسة هذه الحقيقة جيدا، ولذا ينظمون قوافل وفاء إلى الداخل التونسي الذي صنع الثورة وحافظ على ديمومتها. في ثنائية الداخل والساحل، ظل الداخل التونسي يشكو منذ الاستقلال التهميش ودفع الثمن الأعلى للاستبداد. في المقابل، اعتمد النظام على النخب “الساحلية” الأكثر رفاها وانفتاحا.
انطلقت قافلة الوفاء لدماء شهداء القصرين وتالا فجرا، كنت تشاهد فيها المجتمع التونسي بأطيافه؛ أطفالا وشيوخا، نساء ورجالا، محجبات وغير محجبات.. في مشهد مهيب. وكم بدوا كبارا وهم يرفعون العلم الفلسطيني، وفي الوجدان التونسي تستقر قضية فلسطين باعتبارها تجسيدا للنضال ضد الظلم. ومن شعاراتهم المركزية “الشعب يريد تحرير فلسطين”، ولا يتعارض ذلك مع أهدافهم المحلية والمناطقية في العمل والتنمية وغيرها.
تتبدى ملامح أخرى لتونس عندما تتوغل في داخلها. تغدو القرى قريبة من قرانا في المشرق، وتتلاشى مسحة التغريب. والناس بسطاء كرماء محافظون يتحلون بقيم الفروسية والبطولة. شطب اسم القصرين وكتب مكانه “قلعة الشهداء”، ولا ادعاء في ذلك فالولاية (المحافظة) قدمت ستين شهيدا، أي زهاء ربع شهداء الثورة، وفتك بها قناصة النظام لإرهابها من دون طائل. حتى التحرك في العاصمة انطلق من حي التضامن الشعبي، وأكثرية سكانه من الداخل.
كان رفيقي في السفر محسن سعودي، وهو محام من القصرين، وقيادي نقابي شاب (38 سنة). تحدث عن اللحظات العصيبة التي تلقى فيها محامو القصرين تهديدات بسبب تحركهم في الثورة. كانت ثورة سيدي بوزيد عفوية محلية احتجاجية بلا مطالب سياسية. المرة الأولى التي سُيّست فيها الثورة كانت على يد محامي القصرين الذين سيروا مظاهرة بزيهم الرسمي تطالب بمطالب سياسية واضحة. إنها صناعة اللحظة التاريخية بجدارة، غضب عفوي استجاب له جسم نقابي مسيس. أطره ونظمه ووضع أهدافه وتقدم الصفوف ولم يذعن لتهديد.
سألت سعودي عن القوى السياسية الفاعلة، قال الآن الأولوية هي حماية الثورة، وشكلت لجان في كل حي للحماية. ولم يتردد بالجزم أن القوى السياسية الأولى هي “النهضة”. تحدث عن الفظاعات التي مارسها نظام بن علي بحقها. قال إن أي انتخابات نزيهة ستكشف وفاء شعب تونس للحركة التي دفعت الكلفة الأعلى في مواجهة بن علي. قال: لماذا يبخس نضال قادة الحركة الذين أمضوا في السجن سنوات نيلسون مانديلا؟ لأنهم إسلاميون؟ يواصل: قدمت الحركة ثلاثين ألف معتقل واستشهد تحت التعذيب أكثر من مائة من كوادرها وشرد الآلاف. وعوقب كل من له علاقة بهم بالحرمان من العمل والابتعاث. وتساءل كيف يمكن مساواة أولئك بمن كانوا حلفاء النظام إلى لحظة سقوطه ثم انقلبوا عليه. الشعب التونسي يعرف جيدا من ضحى، سواء على امتداد سنوات الديكتاتور أم في أتون الثورة المجيدة.
لم تكن الثورة لتنجح لو بقيت نضالا على لوحة مفاتيح الحواسيب، وفي فضاء الفيسبوك، لقد دفع ثمن غال من دماء جميع التوانسة، حتى الطفل الذي اختنق بالغاز المدمع أسهم في نجاح الثورة، ولا يقلل ذلك من الثورة الناعمة للموسيقيين والمغنين والممثلين الذين وضعوا إبداعهم في خدمة الثورة. ويبقى الإسهام الأكبر في الثورة لـ”قلعة الشهداء” التي كانت وستظل قلب الثورة التونسية.
هل تريد التعليق؟