مقالات

في مئوية إمام الجيل حسن البنا

من يصدق أن حسن البنا كان شابا في مطلع العشرين من عمره عندما أسس كبرى الحركات الإسلامية في القرن العشرين، فيما لم يكن قد تجاوز الثالثة والأربعين عندما استشهد! كان من طراز الشخصيات الملهمة المجددة، التي تقوم بأدوار تاريخية تتعدى السن والخبرة.

وإمام الجيل في مرحلة الانحطاط التي نمر بها، لم يعامل باعتباره رائدا من رواد النهضة والتحرر تحتفل به أمته، بل بدا وكأنه من اختصاص جماعته التي أسسها “الإخوان المسلمين”، فلا يعني غيرهم.

لو كانت الدنيا بخير لاحتفل العالم الإسلامي بالذكرى المئوية لميلاد إمام الجيل حسن البنا، وأقله لاحتفلت به مصر، لكن لعالم الإسلام ولمصر شغل آخر هذه الأيام. وأنا أقصد هنا الشق الرسمي، أما الوجدان الشعبي فهو يعرف جيدا أئمته وقادته ورموزه، فهؤلاء تخلدهم أفعالهم وآثارهم، لا احتفال يرعاه مسؤول أمي أو طابع بريد.

في العالم الإسلامي متسع للنكرات والمسوخ في الماضي والحاضر، ومصر التي قدمت لأمتها رواد النهضة الحديثة من الاتجاهات كافة، تقلصت بحجم الوريث المرتقب. وإمام بحجم البنا من المفروض أن يدرس للتلاميذ على مقاعد الدرس، وأن تؤرخ له أفلام السينما والأفلام الوثائقية، لكنها سمة من سمات الانحطاط أن يغيب من بذلوا دماءهم في سبيل أمتهم، ويقدم من مصوا دماء الأمة.

أسس البنا مدرسة خرّجت الملايين. وكأي مدرسة، لم يكن طلبتها متشابهين، وكثيرا ما يكونون متناقضين، لكن ما أراده استراتيجيا تحقق؛ فقد أسس الجماعة في وقت انهار الرمز السياسي الجامع لأمة الإسلام، إذ ألغى أتاتورك الخلافة رسميا في اسطنبول، وتشظى العالم الإسلامي دولا تابعة للمستعمر.

نقل البنا “الخلافة”، الرمز الموحد، من فوق أي الدولة إلى تحت أي المجتمع؛ فإذا لم يكن للمسلمين “دولة جامعة”، فليكن لهم إذن “دعوة جامعة”، وغدا فيها الأمام المرشد هو الخليفة على مستوى المجتمعات الإسلامية، تنعقد له البيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وغدا الفتى العشريني هو “المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين”، أي الخليفة على مستوى المجتمعات الإسلامية التي انتشرت فيها الجماعة الساعية إلى إعادة دولة الإسلام الجامعة للأمة والمعبرة عنها.

حيل الفتى ودهاؤه لم تنطل على المستعمر البريطاني في مصر ولا على عملائه، فأدركوا أن الشخصية الرقيقة المحاورة تخفي وراءها مقاتلا عنيدا صلبا، ليس لأنه جند آلاف المتطوعين من مصر وسورية والعراق والأردن لمقاتلة الإسرائيليين، بل لأنه مصمم على المضي نحو أهدافه بالسلم أم بالعنف. صحيح أن مشاركة الإخوان في حرب فلسطين ساهمت في قتله، لكنها لم تكن السبب الحاسم؛ فالمقاتلون تم استيعابهم في معسكرات الاعتقال، والهدف الذي قاتلوا من أجله لم يتحقق، إذ قامت إسرائيل واعترف بها العالم. إنما الخوف كان من أن يمسك المرشد بالسلطة في البلد القائد في العالم الإسلامي. فقد كان الشارع معه، وفي تقارير المخابرات البريطانية كان يقال إن من بين كل ثلاثة في القاهرة واحدا من الإخوان المسلمين. شخصيته المستقيمة الفذة الكاريزمية لم تكن لتقارن بالملك الخليع فاروق. ولم يكن يخفي البنا هدفه، إذ بحسب رسالة المؤتمر الخامس، فإن الحكومة تعامل “بالوعظ والإرشاد، وإن أبت فالخلع والإبعاد”، وكان يرى استخدام القوة حيث لا يجدي غيرها.

ولو وصل البنا إلى حكم مصر لكان بحق خليفة العالم الإسلامي، ولانعقدت له بيعة الدولة لا بيعة الدعوة، لكن ما كان له ذلك، فامتدت نحوه يد الغدر لتسيل دماؤه في شوارع القاهرة.

كان خطأ البنا أنه لم يستخدم القوة مع الإنجليز وعملائهم في الوقت المناسب، وخلافا لما يقال عن تورطه في العنف، كان أبعد ما يكون عنه في العلاقات بين أبناء شعبه. ومع إيمانه باستخدام القوة، إلا أنه كان يتجنبها ما أمكن. ولو أن البنا استخدم قوة الجماعة في تحرير مصر من السيطرة الاستعمارية البريطانية لكان أجدى من محاربة العصابات الصهيوينة. لكن ما لم يتمكن من تحقيقه تمكن منه تلامذته من ثوار يوليو “الضباط الأحرار”، الذين كان جلهم، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر (كما يؤكد خالد محيي الدين الذي تحول إلى الماركسية)، قد بايعوا النظام الخاص في الجماعة. وعندما اصطدم عبدالناصر مع جماعة الإخوان حاول أن يقول للناس إننا لم نختلف مع الإمام البنا، فزار قبره برفقة شقيقه عبدالرحمن البنا.

يلام البنا أنه أسس لمدرسة العنف الإسلامية، والصحيح أنه يلام لأنه لم يستخدم العنف عندما كان مشروعا. استخدمه ضد الإسرائيليين، واستخدمه أتباعه في حرب قناة السويس، وكان مشروعا استخدام القوة لإقامة حكومة وطنية وطرد الإنجليز. وربما لو قامت ثورة يوليو قبل اغتيال البنا   لتغير وجه العالم العربي والإسلامي.

يتهم البنا بأنه أسس حركة طائفية، مع أنه الوحيد الذي تمكن من الخروج في جنازته هو القبطي مكرم عبيد باشا. كان الرجل يتعامل مع الأمة بانفتاح، بمعزل عن الطائفية والمذهبية، كان الإسلام بالنسبة له هو القاسم المشترك الأعظم بين أبناء الأمة، حتى من غير المسلمين ديانة. وهو ما عبر مكرم عبيد بقوله “أنا مسلم مواطنة مسيحي ديانة”.

لم تكن سيرة البنا سيرة الأنبياء والملائكة؛ كان بشرا وقع في أخطاء، لكنه بالمجمل كان مجددا وإماما في مرحلة انهيار وانحطاط، تصدى للمسؤولية في أخطر المراحل، وأدى ما عليه، وبذل أعز ما عنده.

هل تريد التعليق؟