“أحداث معان” أو “هبة نيسان” أو “انتفاضة معان”، لا تهم التسمية، المهم أن 17 نيسان 1989 كان يوما مفصليا في التاريخ الأردني الحديث؛ يوما عفويا فطريا بريئا، عبّر عن شوق الناس للحرية والكرامة، ورفضهم للفساد والفقر، بعيدا تماما عن أي برنامج سياسي، لا لدول الجوار ولا للغرب ولا لصراع مراكز القوى كما حاول بعض الأغبياء قراءة الحدث.
لم يصل تنظيم سياسي ولا دولة ولا جهاز إلى السواقين الذين أنهكهم ارتفاع أسعار المحروقات دون ارتفاع الأجرة. أضربوا فلم يستجب أحد لمدينة نائية لا يهم لو تعطلت مواصلاتها. تحرك السواقون نحو المدرسة الشاملة فناصرهم الطلبة، واشتعلت المدينة التي كانت قيد الانفجار. لم يكن ثمة نقابة تحرك السائق ولا الطالب، ولكن الأنفة التي تعلمها حتى الأمي جعلته يتصدى للدولة، ويخرج إلى الشارع طلبا لحقوقه.
قرأ الملك الحسين رسالة الشارع جيدا، فرفض أن يظهر رئيس الوزراء زيد الرفاعي حتى في رحلة العودة على شاشة التلفزيون. وشرع في إصلاح سياسي جدي توج بانتخابات 1989. ولم ينتظر تغيير القوانين، بل سمح للأحزاب المحظورة بالمشاركة.
اليوم، في ذكرى نيسان، علينا أن نعترف أن التحول الديمقراطي في العام 1989، والذي يظل إلى اليوم قاعدة لأي إصلاح سياسي، كان نتيجة تضحيات هائلة، توجها الشهداء: يعقوب سليمان قطاونة وابراهيم مطيع قطاونة من الكرك، واحمد حسين السعودي وسامي الرواد وعمر أبو رخية وسليمان أبو هلالة ويحيى مرزوق عبكل من معان، ومحمد العوران من الطفيلة، ومحمود النسعة وصقر علي هويمل الخطيب وهارون أبو حيانة من معان، ورافع مليح العودات وعوض طاهر الحجايا من الحسينية، وعامر كريشان من معان.
للأسف، خُذلت معان. ومن يومها تم التعامل معها باعتبارها ملفا أمنيا. قصّرت معها الدولة، تماما كما قصرت معها القوى السياسية كافة. وعندما استبيحت المدينة وتعرضت لأبشع انتهاكات حقوق الإنسان في أحداث 2002، تخلت عنها القوى السياسية، بل إن من أشباه اليسار من اعتبرها إمارة ظلامية سلفية.
على الأقل من المفروض أن تحتفي الدولة والمجتمع بمعان بالنطق إن لم تسعد الحال. ففي تلك الانتفاضة لم يطرح شعار الثورة وقلب النظام، بل قبلت الناس على رغم غضبها الذي أتى على كل مؤسسات الدولة بالإصلاح الديمقراطي. وهذا دين في عنق الدولة التي كان من الممكن أن تواجه عصيانا وثورة. أما القوى السياسية، فلم تكن مشاركة ولم تسل دماؤها، وجاءتها المكتسبات على طبق من ذهب. هنا لا ينكر دور من ضحوا في ظل الأحكام العرفية، سواء من سحب جواز سفره أم سجن أم منع من وظيفة، لكن في معان لم يكن أحد حاضرا.
في أحداث معان 1998 سأل الملك الراحل: لماذا معان؟ وكان جواب الحكومات المتعاقبة مزيدا من الأمن وقليلا من السياسة والاقتصاد. وهو ما أنتج فشلا مديدا نحصد نتائجه اليوم. فلا يمكن حل مشكلة معان بمعزل عن إصلاح شامل في البلاد كلها، مع التركيز مرحليا على معان وغيرها من المحافظات المنكوبة.
أسمع الشكاوى من الليبيين والعراقيين.. في عمان، وأرد ببساطة: أرسلوهم إلى معان. فالمدن الجاذبة هي مدن ناجحة، والمدن الطاردة هي مدن فاشلة. في العام 1989 كانت معان على رغم التراجع في الاقتصاد والتنمية مركزا للمحافظة. اليوم، نزعت منها العقبة وإقليم البتراء والشوبك، ولا أدري كيف يمكن تثبيت من بقي من سكانها فيها؟
الوفاء لمعان يبدأ رمزيا، بالشعور بالامتنان لها، وإعادة الاعتبار لها كما كانت منذ تأسيس الإمارة إلى التسعينيات. لقد عوقبت معان وجردت من فضائها الاقتصادي الطبيعي (البتراء والعقبة)، وتحولت إلى معتقل صحراوي معزول يطالب المعتقلون فيه بتحسين ظروف المهاجع. ولا أبالغ إذا قلت إن الحياة في معان صعبة، وتزداد صعوبة منذ العام 1989. وفي ظل الربيع العربي، يجدر إعادة الاعتبار لمدينة سبقت سيدي بوزيد في انتفاضة الكرامة والحرية.
هل تريد التعليق؟