مقالات

في وداع جدتي

يطرح السؤال مع كل رثاء لشخص عادي ليس من الشخصيات العامة هل يحق لكاتب أن يشغل القراء بشجونه الخاصة لا توجد إجابة قاطعة. فأعظم الروائيين كماركيز وأمين معلوف هم من حولوا الأشخاص العاديين إلى استثنائيين مبهرين. وأعظم اللوحات ليست تلك التي ترسم صور المشاهير بقدر ما توثق لحظات غامضة لمجاهيل. في الشأن العام معان مشتعلة والمواقع الإلكترونية محجوبة والقصير صامدة وميدان تقسيم بين الحشد والتفرق كل ذلك يتضاءل أمام شأن شخصي وهو رحيل جدتي لأمي، عائشة الشويكي زوجة عبدالكريم الحياصات. بعد نحو تسعين عاماً غادرتنا مخلفة حزنا عميقا لدى أولادها وأحفاد أولادها وبناتها. كان تعامل مع ما تناسل من أولادها الثلاثة وبناتها الثماني كتاجر تسأله عن ثروته تخشى أن تحسد وهي التي أدركت ابناءها وبناتها جدات. كان من الصعب عليها أن توزع كماً كبيراً من الحب بشكل متساو على العشرات، وكان آخر ما أوصت به أن تباع مباريمها في سبيل إقامة وليمة تجمع شمل العائلة وهو ما يسعد روحها بعد أن أنهك جسدها. وهي التي كانت على مدار السنين تعتمد على نفسها في إدارة العائلة الضخمة دون شغالة. وكان بيتها في جبل الحسين في ذاكرتي أشبه بمطبخ ضخم يزود كتيبة من الجند، وكانت النوعية لا تتأثر بالكمية، فالكبة وورق الدوالي والمحاشي من المطبخ الشامي تطبخ مثل المنسف والمسخن والبخاري، وفي صباحات الجمعة كان للحمص المصنوع في البيت مذاق مختلف عما نأكله في المطاعم. توفيت جدتي لوالدي في صغره وكان يتيم الأم، ولذا فإن الجدة ارتبطت في ذهننا بالأم. وفوق ذلك كانت بالنسبة لنا أماً ونحن صغار وكنا نناديها بـ”ماما أم فتحي” وليس “تيتا أو جدة” ويعود ذلك إلى أن الوالدة كانت تعمل معلمة في مدرسة معان، وعندما أنجبتني طفلا ثانيا بعد أخي عمار بعد سنة أرسلته إلى عمان عند جدته لترعاه كأم على مدار سنة وتتمكن من مواصلة العمل مدرسة وبنفس الوقت تتمكن من العناية بي في سنتي الأولى. وهو عمل قل أن تقوم به جدة في سبيل بنتها وسبطها. في حياتي كانت أم فتحي في جبل الحسين تمثل “النظام” وكانت زوجة جدي في معان أم هارون تمثل الحرية. كانت تحمل إرثا مدنيا شاميا في الشكل والمضمون، وصل أهلها إلى عمان من دمشق الميدان إلى جبل القلعة. وتعلمت في ذلك الوقت حتى الصف الخامس وكانت تحدثنا كيف كان المجتمع رافضاً لتعليم الإناث إذ كن يلبسن النقاب وكان الأولاد يسخرون منهم في الشارع ويزفونهم “نص مرة (امرأة) قفة ..”. وعندما تزوجت جدي الضابط في الجيش العربي عبدالكريم الحياصات كان التعليم هدفا أسمى لها. وبنتها الأولى فتحية أكملت تعليمها ودرست في قرية اسمها “خلدا”(الحي المرموق في عمان الغربية اليوم) وابنها فتحي أكمل في تركيا وبريطانيا ووالدتي الثالثة “تغربت” مرتين في الدراسة والعمل، إذ درست في معهد معلمات رام الله وعملت في معان معلمة والتي كانت أحوالها في الستينات نسبيا أحسن من أحولها اليوم. وفي تلك “الغربة” تعرفت على والدي. وباقي أولادها وبناتها أكملوا تعليمهم في إطار الاستثمار الحقيقي في التعليم قبل أن تظهر المكرمات، والدخول كلها من رواتب ومن إيجارات في جبل الحسين تنفق على التعليم. كانت أم فتحي رحمها الله تمثل النظام بقسوته وجماله، ولم تنس شيئاً من الإرث الشامي، كان الاستحمام عقوبة بالغة القسوة في طقوس مرعبة من تلييف وتكييس. كنا وأولاد خالي وخالاتي نستبيح بيتها نسرق البطاطا والبصل والبيض لشوائها في الجبل ونعود معفرين مسخمين! جبل الحسين لم يكن مكتظاً كما هو اليوم. بيت الجد في معان كان مسموحاً فيه كل شيء وأم هارون كانت ترى في طفل رجل له الحق أن يفعل ما يشاء أم فتحي كانت ترى حتى في الرجل طفلا لها الحق في تربيته. كان بيتها في جبل الحسين أقرب إلى شق عرب بلا أبواب. مشرعا للقادمين من أقارب في السلط وأنسباء يغطون جهات المملكة. لكن في البيت كل مقومات الحياة العصرية من ماكنة الخياطة التي أضيف لها ماتور كهربائي مرورا بأول تلفزيون في الحارة. قل أن تجد حفيدا لها أو سبطا (ابن البنت) لم يلبس كنزة صوف من حياكة سنانيرها، وتتساءل هل بقيت نساء ينسجن بالسنانير؟ ظلت مدبرة منظمة حتى عندما رافقتها طفلا في رحلة الحج عام 1974، ببساطة الحياة تلك الأيام يأخذ الوالد رحمه الله الوالدة وحماته وشقيقه محمد ووالديه أنا وعمار. في فضاء السيارة المرسيدس 190 وفي الخيمة التي نصبت في منا كانت تحافظ على نمط الترتيب والنظافة وكأنها في بيتها./>بقيت شامية مع أنها تفاعلت مع بيئات مختلفة من زوجها السلطي إلى كنتها الإيطالية. بيت جدي لأبي كان معانيا صرفا ولا يخرج عن دائرة عشيرة الكراشين، بيت أم فتحي كان يضج بالتنوع، بناتها الثماني توزعن على جغرافيا الأردن (القطيشات،أبو هلالة، المفلح، الملكاوي، المومني،الرحاحلة، الخصاونة) أما أبناؤها فتوزعوا بين الشام وإيطاليا حيث استقر ابنها سعد مع عائلته الإيطالية. طافت بحكم عائلتها أماكن كثيرة في أميركا وإيطاليا والخليج والأردن. وكانت أكثر ما يزعجها الوحدة والبعد عن الناس. احتارت لينة ملكاوي بشقار جدتها ولون عينيها الزرقاوين فأجرت لها فحص “دي أن أيه” فتبين أن أصولها من أوروبا، وهذا ما يميز هذه المنطقة في العالم التي منحها حوض المتوسط والامتداد العثماني في أوروبا فرصة التفاعل والتواصل خارج الفضاء العربي. هي جدة عادية عاشت حياة جميلة، وخرجت روحها وهي تلقى عناية صحية لائقة في مدينة الحسين الطبية بتأمين من زوجها المتقاعد العسكري من منتصف الستينيات وحولها أجيال ممن عاشوا حياة كريمة وتوزعوا في قارات العالم، ومن حسن حظها أنها غادرت الشام طفلة وبقيت هنا. فمن الأخبار السيئة التي لم تصلها أن ابن شقيقها اختفى عند الأمن السوري ولم يعرف عنه شيء، والأقارب تشردوا في داخل سورية وخارجها. في شخصيتها العادية نرى سر الأردن في تنوعه الثري والتفاعل الخلاق بين مكوناته. وفيها نجد حجم الجهد الذي بذله الأجداد في بناء البلد؛ الذي يبدأ ببناء الأسرة. رحل جدي قبلها وكان وهو الضابط العادي نموذجا لجيل من الأردنيين الذين صقل الجيش شخصياتهم وطورها، وجعل منهم طبقة وسطى حقيقية. كان ضابطا وملاكا في جبل الحسين وتمكن من تدريس عائلة من 11 فردا تعليما جامعيا. وفي غضون غيبته في المعسكرات كانت الجدة تقود جبهة البيت بكفاية واقتدار. أسأل الله لها الرحمة، وأن يجمعنا بها في مستقر رحمته، وأتمنى أن تجدد حفيداتها سيرتها العطرة.

هل تريد التعليق؟