يُبدع الشعب الجزائري في الإجابة بذكاءٍ عن أسئلة الامتحان الصعبة، وهو الشعب الذي جرّب بنفسه تحول حلم التحول الديمقراطي إلى كابوس “العشرية السوداء”، وأعطى عشرات الفرص للسياسيين الواقعيين، لإنجاز تحوّل بالتقسيط المريح في حقبة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وبالاستفادة من عرض الربيع العربي الذي أزهر في الجوار التونسي، فأكلت حقوق الشعب بالتقسيط، وصولا إلى حكم “العصابة” المختبئة وراء الرئيس الكسيح. لذلك هذه المرة “الثالثة ثابتة”، ولن يُلدغ الجزائريون من جحرٍ واحد ثلاث مرات.
من المفرح أن نشاهد الجمعة السابعة بعد المئة، وكأننا في مسلسل تلفزيوني يُبدع الصورة والدراما التي تستهوي المشاهد، ولكن هذا ما يسعى إليه أعداء التحول الديمقراطي خارج الجزائر وداخلها بسوء نية، بحيث تكون الصورة الديمقراطية بديلا مُرضيا للواقع غير الديمقراطي. وبحسن نية، نظل نمجد صمود المتظاهرين وانضباط الجيش، وننقسم بين من يقدس الشارع ومن يقدس الجيش.
مهما كان الطالب مجتهدا ومبدعا، عليه أن يسلم إجاباته في الوقت المحدّد، وإلا فإن النتيجة صفر، ولا ينظر في ورقة الإجابات. بات الوضع مقلقا في الجزائر، والوقت يمضي باتجاه انتخاباتٍ بماكينة انتخاب بوتفليقة نفسها، وهي قادرة على استنساخه بنسخة جديدة بصحّة جيدة، وهذه عودة إلى ما قبل حدود 22 فيفري (فبراير/شباط). مطالب الحراك واضحة، واستجابت المؤسسة العسكرية لأكثرها، سواء محاسبة الفاسدين (وصولا إلى السعيد بوتفليقة واللواء عثمان طرطاق ومَن دونهما).
والأهم الوعد بإنشاء هيئة انتخابية عليا مستقلة للانتخابات. وقد يكون تشكيل هذه الهيئة الخطوة العملية المنتظرة من المؤسسة العسكرية، فلا شك أن الرئيس الانتقالي الحالي غير مؤهل لإدارة عملية انتخابية مستقلة، وهو الذي يتهمه الحراك بأنه وقف وراء تزوير الانتخابات في السنوات العشر الأخيرة، عندما كان واليا ووزيرا للداخلية.
بدون أوهام، يحتاج الجيش إلى ضمانات تماما كما يحتاج الشارع، وتحتاج الجزائر إلى حكماء يوازنون بين مخاوف الطرفين، وصولا إلى صيغة توافقية. وثمة من يلعب على غرائز السلطة، ويخوفها من الحراك، وللسلطة، سواء الجيش والأمن والجهاز الحكومي خطايا، ولم يكن بوتفليقة يحكم وحده، هم شركاؤه أيضا. بدأت المحاسبة، وقدمت أكبر الرؤوس، لكن التوسع في الحديث عن المحاسبة لا يُطمئن من هم في السلطة. لا بد من حصانة للجيش، وضمانة له، سواء في المرحلة الانتقالية أم مستقبلا. وهذا ينسحب على باقي السلطة، فتجربة “اجتثاث البعث” دمّرت العراق. وفي المقابل، أظهرت تجارب التحول الديمقراطي، مثل إسبانيا وإندونيسيا وأوروبا الشرقية، أن من الممكن أن تكون البيروقراطية في نظام شمولي من جسور العبور إلى الديمقراطية.
تقديس الجيش أو شيطنته يؤديان إلى نتيجة واحدة، وهو لا يحتاج إلى أي منهما. إنجازه التاريخي هو إتمام التحول الديمقراطي. ومهامه الأساسية في حماية البلاد، والحفاظ على وحدتها، ليست سهلة في إقليم مضطرب. والحفاظ عليه مكانةً وهيبةً هو رصيد للدولة الجزائرية التي يحكمها نظام ديمقراطي.
لا يوجد سيسي في الجزائر، ولا سوار الذهب في المقابل. لم ينقلب الجيش على السلطة حتى يسلمها. وهو بذلك يقدّم نموذجا غير مسبوق عربيا، وقد يحتل مكانا في تاريخنا المعاصر نموذجا في التحول الديمقراطي، عندما يتناغم الجيش مع حراك الشارع، وهو نموذجٌ نادر. الخشية أن تتحول الجزائر إلى نموذج في الفراغ السياسي وانعدام الوزن. بحيث تتحول البلاد إلى فوضى وحكومات تصريف أعمال، والجيش والشارع يراقبان، إلى أجل غير مسمى.
لا تستطيع الجزائر إجراء انتخاباتٍ في الموعد “الدستوري”، وبإشراف حكومي غير موثوق. وقد تكون الخطوة المنتظرة هي الإعلان عن الهيئة الانتخابية العليا المستقلة بصلاحاتٍ إشرافية حقيقية، من صلاحيتها تحديد الموعد المناسب للانتخابات. بهذه الخطوة، يكون الامتحان قد انتهى بامتياز، وليس بنجاح فقط. وسيحتل الجيش الجزائري مكانته في مستقبل الجزائر كما احتلها في تاريخه. وغير ذلك سنبقى نتابع مسلسل الجمع الجميل.
هل تريد التعليق؟