تتجدد الذكرى كل عام وتفتح الجرح كأنه اليوم ، قبل 47 عاما صرت يتيما أنا وأربعة أطفال كبيرنا عمار في التاسعة وأنا في الثامنة وصغيرنا عبدالله لم يكمل عامين . تلوّن الذكرى كل عام بما يرافقها من أفراح وأحزان، فتقول ليته شاركنا فرحنا أو تقول ارتاح من لم يذق مرارة المأساة. كنت أحب أن يشاركنا فرح حفيدته رند بزواجها، وهو الذي اختار اسمها قبل أن تولد ، إذ كنا خمسة ذكور وكان يأمل بأن تنضم أنثى للعائلة ويسميها رند ( شجر طيب الرائحة يستخرج منه البخور ، من أسماء الغزال، مدينة رندة من إرث الأندلس..) وفي هذا العام مرارة الحزن تجددت عندما رحل عمي هارون رحمه الله أخوه الذي كان والدي الثاني بعد رحيله، ورحل خالي سعيد رحمه الله الذي كان بمنزلة الأخ. وسبقهم خالي فتحي رحمهم الله. ليس وقته، في ظل المجزرة المفتوحة أن أكتب عن ذكرى رحيل والدي. لكن ثمة معاني في الخاص قد تنفع العام. في هذا اليوم عرفت أن والدي ، رحمه الله ، الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره رحل عن دنيانا في حادث سير على طريق الرياض، وأنا الذي في الثامنة من عمره وأطفال العائلة الخمسة صرنا أيتاما. من يومها أدركت إن قرار الموت لا يخضع للمنطق، وإن الله يأخذ وديعته في موعد محدد لا يتأخر ولا يتقدم، ليس مهما كم تعيش المهم كيف تعيش وماذا تترك من محبين يدعون لك، وعمل صالح يبقى وعلم ينتفع به. مهما طالت الحياة تظل قصيرة، ونسبية. هذا يتطلب أن تكون منذ أن تفتح عينيك نهر حب متدفق بلا انقطاع، قد يكون اليوم الأخير ، وقد تكون القبلة الأخيرة. بعد 47 عاما لا أنسى القبلة الأخيرة من والدي. كم من أنهار حب فاضت في غزة ! وكم قبلة أخيرة طُبعت وشما لا يزول. بقي أن أقول أن علي أبو هلالة والدكتور نهاد الموسى رحمهما الله ، غرسا في في ملايين الطلاب في مناهج اللغة العربية حب فلسطين وقيم الحرية والعدالة. لا أنسى في كتاب القواعد قصيدة درويش التي حفظتها من حينها يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل نيرون مات و لم تمت روما بعينيها تقاتل و حبوب سنبلة تجف ستملئ الوادي سنابل وإن آخر رحلة كانت معه إلى معان زرنا فيها شهداء مؤتة، جعفر وزيد وعبدالله.. لنعرف من نحن ومن أبطالنا ! كم في غزة من أبطال يجددون سير الفاتحين ! في مثل هذا اليوم كنت في المدرسة عندما بلغني الخبر. قبلها بأيام أوصلنا وقبّلنا قبل ذهابه إلى السعودية ولم أكن أدري إنها ستكون القبلة الأخيرة. لم يكن موته متوقعا؛ في الخامسة والثلاثين من العمر، تقبل عليه الحياة، يعمل مديرا لبرنامج محو الأمية في شركة فينيل الأميركية لتطوير الحرس الوطني السعودي. وقد حصل على قبول للدكتوراه في أميركا. ذلك كله انتهى بحادث سير على طريق الرياض قبل عيد الأضحى بأيام . وعيته سنوات محدودة، لكن ظل حاضرا معي ولم يباعدنا الموت. فكل شوق ينتهي باللقاء لا يعوّل عليه. في آخر سنتين من عمره غاب عنا في عمله في الرياض، وكان أبي بالنسبة لي حاضرا وأن غاب. وفي سفره الطويل لا يزال حاضرا، تسره سيرة من تركهم أيتاما، أكبرهم عمار كان في التاسعة وأصغرهم عبدالله الذي لم يكمل عامه الثاني . يسره إن علي ابني الذي حمل اسمه صار في الجامعة وكذلك أحفاده أولاد عمار زيد ويمان .. أميركا التي حال الموت بينه وبين أكمال دراسته فيها، ابنه أسامة طبيب أورام فيها، وعبدالله حصل منها على شهادتي ماجستير. لكل يتيم قصة نجاح، ولوالدتي نجاح، أطال الله عمرها الفضل الكبير، بعد الله، في ذلك. فخور بها وبوالدي وبعمار وأسامة وزيد وعبدالله. يوم يستحق أن نحزن فيه، بقدر ما نفخر ونفرح. فما تركه من أرث باق، وما تركه من أثر لا يزول. فملايين الطلاب الذين درسوا مناهج اللغة العربية للمرحلة الثانوية، أو تتلمذوا على يديه مباشرة علمه باق فيهم . عشت حياة قصيرة، لكنك عشت راضيا مرضيا، أسعدت كل من عرفك. ذقت مرارة اليتم صغيرا عندما فقدت والدتك، لا أنسى ما كان يرويه عمي محمد رحمه الله عن طفولتكما القاسية، لكن نجحت وتفوقت، كنت من أوائل الجامعيين في معان، في جامعة دمشق تكوّنت علميا وفكريا، وعدت إلى معان لتساهم في رد جميل أهلك وبلدك. في كل زيارة لمعان كنت أرى محبتك للناس ومحبتهم لك. لا أنسى وانت تأخذنا لراس النقب لزيارة خالتك بندر رحمها الله، ولا الجولات الطويلة على الأرحام، وأنت بحاجة إلى كل دقيقية في إجازتك. لا أنسى يوم أخذتنا إلى معان عن طريق وادي الموجب لنتعرف على بلادنا. لا أنسى الطريق الجميل والمخيف في آن، يومها أركبت معنا بدويا على الطريق، لم نفهم شيئا من حديثكما، كانت اللهجة عصية على فهم طفل نشأ في عمان. لكن تعلمت أن ذلك البدوي الذي نجهله رفيق دربنا، ويستحق أن نساعده.
الرئيسية » قبل 47 عاما صرت يتيمًا أنا وأربعة أطفال
هل تريد التعليق؟