من يتابع التقارير التي تبثها قناة الجزيرة عن منجوليا يشاهد كيف يمكن للبشر التكيف مع الظروف الصعبة، وأصعبها المناخ القاري القاسي. في البادية يتدفأون على وهج روث الحيوانات، وفي المدن يقبع أحدهم في حفرة الشارع تحت الأرض بسبب مرور أنابيب التدفئة الساخنة فيها. تلك القدرة على التكيف تلاحظها في تقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية. فأكثر بلدان العالم تنافسُ على التراتيب المتدنية، وقلة منها تنافس في لائحة الدول الأغنى في مجلة فوربس.
الحياة البشرية، ليس كما في تقارير الأمم المتحدة التي تلخصها في الصحة والتعليم، هي أوسع من ذلك وأغنى. ولذا حمل تقرير المنطقة العربية عنوان ” التنمية الإنسانية” وأدرج فيها حقوقا إنسانية تميز الإنسان عما يدب على هذه الأرض من قوارض وأحياء غير أحياء. إنسان أم بشر لا فرق، فالحقوق الإنسانية لا تتجزأ، وقد توافق عليها البشر وحسموها منذ القرن الماضي. ومن لا يتمتعون، اليوم، بتلك الحقوق هم كمن يعيشون بدون كهرباء، أو اتصالات، أو سيارات.
بالمقاييس الإنسانية يبدو العالم العربي مكانا صعبا للعيش، ويحتاج قدرات استثنائية في الصبر والتحمل والتكيف. فالتحدي الأساسي هو القدرة على البقاء لا القدرة على تغيير الظروف المحيطة. فخيار الهجرة ليس متاحا لدى الأكثرية الساحقة، وقلة قليلة قد تغامر وتركب قوارب الموت أملا في الخروج من بلدان يموتون فيها كل ساعة فقرا وقهرا ويأسا.
الإيمان هو السلاح الأساسي للعيش في أماكن لا تصلح للعيش. تؤمن أن في الكون مساحة أوسع، جنة عرضها السموات والأرض، وموازين توضع بالقسط تحقق عدالة مطلقة تزن مثقال ذرة من خير أو شر، وحسابا عسيرا ينتظر من ظلموا وتجبروا وسرقوا وكذبوا.
السلاح الثاني هو التعويض المعنوي، أن تفتخر وتكون سعيدا بأنك لست منهم. تحدق في المرآة وتحترم نفسك. خصوصا إن كان لديك خيار أن تتملق وتنافق وتكون جزءا من الفئة المتنعمة في العيش الفاسد. والسلاح الثالث هو تجاوز اللحظة الراهنة والنظر من خارجها والقبول بحكم التاريخ. فكل الناس إلى زوال، بعد قرن لن يكون هناك أحد من أهل هذا العالم خارج المقابر، وكل علامة قبر توثق تاريخ صاحبها.
توجد معايير دولية لقياس السعادة، تعتمد بشكل أساسي على الرفاه المادي الذي يتحقق من فائض الثروة. ويمكن تطويرها بما يتناسب مع البلدان الواقعة في المراتب الدنيا من سلم التنمية البشرية. منها الإحساس بالكرامة والشرف واحترام الذات والرضا، وستظهر فروق مذهلة على مستوى الشعوب والأفراد.
ما هو أخطر من محاولة الهجرة على قوارب الموت خارج البلاد، هو الانسحاب من الحياة العامة والنكوص والتقوقع على الذات. بشر يفقدون صلتهم بمجتمعاتهم ولا تعود تعني لهم شيئا، وهذا قد يتجسد في الاغتراب واللاأبالية وسلوك التدمير الذاتي وإيذاء النفس في بلدان “التنمية البشرية”، الاسم المحسن لبلدان “غير بشرية”.
هل تريد التعليق؟