يمكن لزائر بيروت أن يلحظ حجم ما تحطّم من الزلزال الذي ضربها في العام 2005 بعد عام من وقوعه. وأن يتوقع حجم الهزة الارتدادية التي أعقبته في العام 2006. وهي مثل الظواهر الطبيعية لا تعترف بما اصطلح عليه من حدود وحواجز بل تأخذ مداها. ومثل كل الزلازل تُحدِث دمارا واسع النطاق.
في ساحة الشهداء تتزاحم الرموز، فمن نصب شهداء الاستقلال الأول إلى جامع الأمين حيث يرقد رفيق الحريري ومن قضى من مرافقيه، إلى خيمة كبيرة ترمز لحركة 14 آذار انتفاضة الاستقلال الثاني أو (05) حسب مقولة سمير قصير الذي توقع أن يشهد العام الماضي الاستقلال الثاني. لكنه شهد اغتياله وجبران تويني، فرفع المعتصمون شعارا جديدا (06).
في قلب بيروت تجهر الرموز بما يسر به اللبنانيون. فعلى رغم “الحشود العابرة للطوائف” في 14 آذار إلا أن الطائفية تبقى حقيقة باقية بعد تبخر الحشود. فالحريري هو رمز الطائفة السنية ولو أراد ومارس غير ذلك. ومع أن الفقه السني أبعد ما يكون عن الحفاوة بالقبور إلا أنه اقتبس من الشيعة والمسيحيين طقوس الاحتفاء.
في محيط جامع الأمين أضخم وأفخم مساجد بيروت التي بناها الحريري تحول القبر إلى حديقة من الورد الأبيض وارتفعت للرئيس صور تشبه صور القديسين في خوذة البناء، يوم بنى ما دمرته الحرب الأهلية في فترة الانتخابات، يحيي الجماهير التي ما خذلته في حله وترحاله. أمام القبر تجلس فتاة ترتدي بنطال جينز وتسدل على رأسها منديلا أبيض تقرأ القرآن باكية على رغم تقادم حادثة الاغتيال. ولا يخلو المرقد من زوار على اختلاف الأعمار، ولا يكتفون بزيارة مرقد رئيسهم الذي غيبته جريمة لا يزال التحقيق فيها ينذر باستمرار الزلزال بل يكملون “طقوس الزيارة” بالسلام على من قضى من مرافقيه، باستثناء الوزير باسل فليحان الذي دفن في مقابر المسيحيين.
زعامة الحريري لم تتحول إلى مزار، بل آلت إلى ورثة أبرزهم نجله، وتياره الذي يمثله رئيس الوزراء فؤاد السنيورة. لكنه ترك فراغا على مستوى الطائفة والبلاد لا يُملأ.
صوت القرآن الكريم في جامع الأمين يختلط بصوت الأغاني الوطنية التي تبثها خيمة الاستقلال. الخيمة مليئة بصور سمير قصير وجبران تويني ومقالاتهما، لكنّ المعتصمين انفضوا إلا قليلا منهم؛ بائع قهوة يرابط منذ امتلأت الساحة بالخيام منذرة باستمرار الاعتصام وصولا للاستقلال الذي لخصوه في نقاط ثلاث أبرزها استقالة الرئيس إميل لحود وهو الرئيس الذي عينه السوريون الراحلون عن لبنان.
تسأل اللبنانيين: لماذا تبقى الخيمة والرئيس في الوقت الذي رحل السوريون وانتهى رموز نظامهم الأمني في السجن؟ تسمع إجابات واضحة لا تسمعها في الإعلام اللبناني على رغم كثرته الكاثرة وارتفاع سقف حريته. لكنه مع ذلك لا يزال يراعي حساسيات الرموز. من يبقي لحود هو البطرك صفير. ولماذا؟ لأن البطرك لا يريد انقسام الطائفة ويرفض المس بمكانة الرئاسة معقل الطائفة المسيحية. طبعا البطرك لا يتغير.
بموازاة البطرك ثمة حزب الله الذي يحتكر عمليا تمثيل الطائفة الشيعية. وهو القوة الوحيدة الضاربة في لبنان بعد رحيل الجيش السوري ومن قبله الإسرائيلي، فإضافة إلى رافعته الشعبية لا يزال يمتلك حزب الله قوة عسكرية وأمنية لا يقوى الجيش اللبناني على الاقتراب منها. والحزب له حساباته التي تجعله حليفا موضوعيا للحود وعضويا للسوريين والإيرانيين.
يغيب حزب الله عن ساحة الشهداء وفي خيمة الاعتصام لا تجد له ذكرا، مع أنه في الجنوب له ساحات شهداء لا منازع له فيها. وإن كان أهل ساحة الشهداء في بيروت يفتخرون بأنهم أخرجوا السوريين، فحزب الله يفخر بأنه أخرج الإسرائيليين. لكن من بقي إذن حتى لا يكون ثمة استقلال؟
الباقي هو الطائفية التي لا يكون في ظلها استقلال، طوائف لا تقبل الجمع في دولة الا دولة قابلة للقسمة. هذا منذ الاستقلال الأول المقام له النصب في ساحة الشهداء.
لبنان الألفية الثالثة هو لبنان أربعينيات القرن الماضي رموزا وطوائف. حاكِموا لبنان هم شيوخ الطوائف مع فارق بسيط لدى الطائفة السنية التي لا يزال يحكمها الحريري من قبره. أما الصلة بالغرب والحداثة فتجدها في مناحي الحياة غير السياسية. وهذا انفصام لا يقتصر على لبنان دون غيرها.
هل تريد التعليق؟