مقالات

مانديلا رجلنا لا رجلهم

من يذكر اسم سجانه؟ من ينسى اسم مانديلا؟ هذه المعادلة العادلة التي تنصف المناضلين في التاريخ. من يذكر اسم قاتل مالكوم إكس أو مارتن لوثر كينج؟ من ينسى أسماء حبات  تلك السلسلة المضيئة من الجواهر السوداء التي بيضت صفحة القرن العشرين بنضالاتها ضد ظلم الرجل الأبيض، لتعلي قيمة  المساواة بين البشر.
 يحتاج العالم بعامة والعرب بخاصة رجلا مثل مانديلا. وهو لم يغادر بل في غيابه يطغى حضوره من جديد. كل الهجاء الذي يقال اليوم في الثورات العربية قيل في مانديلا وغيره من المناضلين. قيل عنه إرهابي، وقيل عنه واهم وغير واقعي، لكن ثبت في النهاية أن الإرهابي هو نظام الفصل العنصري، وأن مقاومة ذلك النظام بالوسائل المتاحة، عنيفة أم سلمية ضرورية قبل أن تكون مشروعة. “في بعض الأحيان تحتاج إلى جرافة، وفي أحيان أخرى تحتاج إلى فرشاة لإزالة الأتربة”، هكذا قال وفعل، استخدم الجرافة كما الفرشاة.
 لم يحتف به العالم إلا بعد أن انتصر، حتى من بني جلدته السود كُثُر قاتلوا في صفوف المستعمر، والنظام العنصري ولعبوا دور السمسار بين البيض والسود. ضمت طبقة السماسرة كتابا وموظفين وقساوسة. حتى المناضلون لم يكونوا جميعا معه، اصطدم بالمتطرفين من المؤتمر القومي الإفريقي ولم يهادنهم، فالنضال سيرة مفتوحة على كل الجبهات. والقائد هو الذي يتحلى بالشجاعة ذاتها تجاه من يحاربهم أو من يحارب معهم.
صحيح أنه اتخذ غاندي ملهما له، لكنه بخلافه خاض نضالا مسلحا حين اقتضى الأمر، ومن روحه أخذ التسامح المبني على القوة “نغفر ولا ننسى”. بعد الانتصار وثّق جرائم النظام العنصري، وكشف كل أسراره وتحالفاته المحلية والدولية.
في فيلم “الاشتعال” تجسيد حقيقي لقيم التسامح لدى مناضلي حركته، فهو صافح المدّعي العام الذي تسبب في سجنه عشرة آلاف يوم. في الفيلم قصة حقيقية لمناضل شاب دمر جهاز الأمن في جنوب إفريقيا حياته تماما، فقد اغتصب زوجته أمام عينيه، وبقي صامدا، وبعدها دمر حياته عندما حوّل الزوجة المغتصبة إلى عميلة له عندما أقنعها بأن زوجها خانها.
المناضل تظاهر وقاتل وفجر وسجن قبل الانتصار، وبعدها انتصر على غريزة الانتقام، وقف أمام مدير مخابرات جنوب أفريقيا، وقال له أستطيع أن أقتلك لكن مانديلا علّمنا أن نغفر. لم تسجل الجرائم في المقابل ضد مجهول، ولم تتلف ووثائق الدولة. بل وجد الضحايا الإنصاف. جُسّدت في شخصه مأساة السود وانتصارهم التاريخي، ليس على نظام وحشي عنصري بل على منظومة غربية حملته وظلت مساندة له حتى الرمق الأخير، وما حفاوة الغرب برحيله إلا محاولة للتخلص من تاريخ مخجل وقفوا فيه مع جلاده وهو وشعبه سجناء.
في سموه لم يشيطن ظالمه، قال إنه يريد أن يحرر الضحية والجلاد، قدم نموذجا في صلابة المناضل وتسامحه وإنسانيته، لم يختصر النضال في شعبه، وقف مع نضال الشعوب، في فلسطين وفي أميركا اللاتينية، ووقف مع شعوب الربيع العربي، واعتبر أنه “ليس حرا من يرى إنسانا مهانا ولا يشعر بالمهانة”.
الشعوب العربية الممتدة “من البحر إلى البحر زنازين متلاصقة سجان يمسك سجان” أولى بالحفاوة بمانديلا، وأن تودعه وداعا يليق به، لا الغرب الذي ارتكب الجرائم العنصرية. وهي أحوج ما تكون إلى صبره في دربه الطويل نحو الحرية، عبد الله البرغوثي في زنزانته التي يفترض أن يمضي فيها مئات السنين يتذكر أن مانديلا كتب على زنزانته يوما ما سأكون خارجها، وآلاف السجناء في سورية ومصر يتذكرون ذلك.
من حق القابعين في الزنازين أن يفخروا بمانديلا، فالعالم يقدر السجين، ويحتقر السجان.

[email protected]

هل تريد التعليق؟