شكلت استقالة أنتوني زيني، مبعوث الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من مهمته في الوساطة الخليجية، عنوانا لمرحلة جديدة تكرّس نتائج أزمة الخليج واقعا يصعب تغييره في المدى القريب، فآخر الجنرالات المغادرين، بعد وزير الدفاع المستقيل، جيمس ماتيس، برّر خروجه بحسب مسؤولين في الخارجية الأميركية “لأنه شعر أنه وصل إلى طريق مسدود”، و”لم يكن هناك أي تحرّك إلى الأمام لحل الأزمة بين قطر وجيرانها الخليجيين”. وقال “لم أكن أعتقد أن خدماتي كانت ضرورية”.
في الواقع، ليس ثمّة وساطة أميركية جدّية. ولم يكن مقنعا أن ترامب غير قادر على إجبار دول الحصار على وقف خرقهم القانون الدولي، فقطر ليست معنيةً بعودة الوئام المزيّف، بقدر حرصها على وقف الخروق القانونية التي يجسّدها الحصار. كان الجنرال زيني يقوم بدور شكلي لا أكثر، “عملية وساطة” تشبه “عملية السلام”. وبدا واضحا أنه ليس حريصا على استمرار الدور الشكلي، خصوصا بعد رحيل رفاقه الجنرالات.
نجحت دول الحصار في تحدّي القانون الدولي، تخطيطاً لعدوان عسكري، حصاراً برياً وجوياً، والعدوان الاقتصادي والقرصنة، بقدر ما نجحت قطر في الصمود أمام الحرب الشاملة التي شنت عليها، وأدارت ظهرها للصحراء محلقة في آفاق البحر والسماء، ولم تأسف على ماضٍ تولّى، جسّده معبر سلوى (مع العربية السعودية)، وحلّ مكانه مطار وميناء حمد الدوليان اللذان تجاوزا احتياجات قطر، ليكونا عقدة تجارة ومواصلات دولياً وإقليمياً للبضائع والبشر.
قبل استقالة زيني، جاء انسحاب قطر من منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) تعبيراً واضحاً لاستراتيجية إدارة الظهر للصحراء، ورسالةً واضحةً ترد الصفعة، ولا تدير الخد الأيسر لمن ضرب الأيمن. وقبل هذا الانسحاب، لم ترد الدوحة على الرسائل الإعلامية التي جاءت على شكل إشادة من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بالاقتصاد القطري، وكلام إيجابي من عبد الفتاح السيسي، وكان توقيتها مرتبطاً بالوضع الحرج الذي عصف بالسعودية، في ظل أزمة القتل المروع للصحافي السعودي جمال خاشقجي. كما أن أمير قطر لم يلبِّ دعوة عاهل السعودية إلى القمة الخليجية، واكتفى بتمثيل وزاري محدود.
لا شك في أن أزمة قتل خاشقجي أضرّت بالسعودية والإمارات بشكلٍ لا يمكن إصلاحه، وأكدت رواية قطر للأزمة الخليجية أنها نتيجة سلوك عدواني همجي أرعن، وليست بسبب أخطاء قد تقع فيها الدول، وتحل بالحوار والوساطة والتحكيم. صحيحٌ أنه لم يوثق حتى الآن دور إماراتي واضح في الجريمة، لكن أبوظبي تبنت بالكامل موقف السعودية، واشتغلت محامي دفاع عنها.
وإلى ذلك، بلغت وقاحة السياسة الإماراتية إلى درجة فتح سفارتها في دمشق، على علو صوتها ضد إيران، مع منع وفد رياضي قطري من دخول أراضيها في مناسبةٍ عالميةٍ. وعلى صخرة الحقد السياسي، تحطمت كل محاولات الإدارة الأميركية، وفوقها جهود أمير الكويت، ليس في المصالحة الخليجية، وإنما في تخفيف التوتر وافتعال المشكلات.
ترى أميركا وأوروبا والدول البعيدة في السلوك المتهور لولي عهد السعودية تهديداً للاستقرار العالمي، ولا ترى إمكانية للتعامل الطبيعي معه، فكيف بقطر الجار اللصيق؟ لم تتكشّف النوايا العدوانية تجاه قطر كاملة حتى الآن، لكن ما ظهر منها كشف أطماعاً في البلد، ورغبة بالهيمنة عليه، لا حل مشكلة سياسية معه. ومواجهة تلك الأطماع لا تكون بالاستسلام لها، بل بتحدّيها من خلال جبهةٍ داخليةٍ متماسكةٍ عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، وشبكة حمايةٍ دولية وإقليمية، وهذا ما نجحت فيه قطر، فالحوار الاستراتيجي القطري الأميركي يستكمل بعد استقالة زيني، والتحالف مع تركيا يتعمق، والتفاهم مع إيران دائم، وهذا ما تحقق وسط شعور وطني بالاستقلالية والإنجاز.
من أعقد الإشكالات التي تواجه الدولة العربية الحديثة بناء الهوية الوطنية بأفق إنساني، وقد ساهم الحصار الذي فرض على قطر في تحقيق ذلك، وبقدر ما وحّد الشعور بالخطر الداهم أحسّ القطريون بنشوة الانتصار بعد زوال هذا الشعور.
كان 5 /6 /2017 اليوم الذي شهد ميلاد الهوية القطرية الحديثة، اليوم الذي أرادوا فيه لقطر أن تنتهي، وقدّر الله لها أن تبدأ.
هل تريد التعليق؟