مقالات

ما يمكن أن تحتفل به الجزائر أيضاً

ودّعت الجزائر أحمد قايد صالح، القائد العسكري الذي ختم حياته بما يليق بمجاهدٍ بدأ حياته في الجبال مقاتلاً الاستعمار، وختمها في شوارع المدن، محافظاً على دماء الجزائريين في حراكٍ مليونيٍّ مديد لم يتوقف بعد رحيله. وهو ما شكّل مسار تحوّل ديموقراطي يصعب وقفه. صحيح أنه بطيء وفق الديموقراطية بـ”التقسيط المريح”، لكنه مستمر. قاتل الاستعمار وحمى المسار، على الرغم من كل الضغوط والإغراءات التي كانت تنذر بنموذج عبد الفتاح السيسي في مصر وحميدتي في السودان وباقي العسكر.يؤكّد مقرّبون من قايد صالح، قبل رحيله، أنه أعلن رغبته في الاستقالة عقب الانتخابات الرئاسية التي انتظمت في 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، لشعوره بأنه وضع الجزائر على سكة التحوّل الديموقراطي الآمن، ولإنهاكه جسدياً وصحياً في ظلّ تحمّله كل الأعباء في فترة الحراك في غياب امتلاء الشوارع وفراغ الدولة. وهو ترجّل فارسٍ لم يتخلّ عن المسؤولية لحظة احتدام المواجهة بين شارعٍ بلا قيادة ودولة تقودها عصابة. تمكّن من تفكيك العصابة وترشيد الشارع وتحمل غضب الطرفين اللذين يمتلكان صوتاً مدوّياً في الداخل والخارج.
الوضع الداخلي الجزائري مبشّر، فقد أعطى رحيل قايد صالح صدقيةً لمسار التحوّل، وبقدر ما دعم حليفه عبدالمجيد تبّون في حياته أعطاه دعماً إضافياً بمماته. لم يتدخّل الجيش مباشرة بالانتخابات، وخالف كل التسريبات بأنه سيدعم عز الدين ميهوبي مرشح حزبي التجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني، الحاكمين سابقاً. في المقابل، لم يكن ليسمح بحصول مفاجأة، ولم يكن له “فيتو” على أي من المرشحين الخمسة. فاز تبّون بدون تزوير أو تدخل، وهذا عزّز مكانته. حتى إن نسبة المشاركة تضاعفت قياساً بالتوقعات الأولية التي لم تكن تزيد على 20%. وهي نسبةٌ معقولةٌ تعطي الرئيس ما يحتاجه من ثقةٍ لقيادة مرحلة انتقالية، وتُبعد عنه غرور الفوز الكاسح.
في مقابل معقولية الرئيس، تعقلن الحراك أيضاً. وانخفض الصوت المتطرّف فيه، وتعالت أصواتٌ وازنةٌ فيه تدعو إلى الحوار مع الرئيس المنتخب، كما أن الخشية من اختراق الحراك بعد الانتخابات تقلّصت. وليس سرّاً أن السبب المباشر للإسراع في الانتخابات كان الخشية من اختراق الحراك من مجموعات انفصالية مرتبطة بفرنسا وإسرائيل والثورة المضادّة، وهنا يُهمس باسم المغرب ضمن المتّهمين بدعم مثل هذه المجموعات.
في الواقع، كثيراً ما تلجأ الدول لحروب الوكالة، وفي الخلاف المغربي الجزائري نموذج لذلك خلال تاريخ الخلاف المديد، وليس مهماً اليوم تنظيم لائحة اتهامات متبادلة، ولا توجد في العالم دولة تتصرّف ببراءة الأطفال. لا تبشّر المؤشرات الأولية من الجزائر بإمكانية انتهاء حروب الوكالة بين البلدين، مع أن المنطق، إن كان له أن يتكلّم، يقول إن لا لحظة تاريخية مثل هذه اللحظة يمكن أن تأتي لطي صفحة الخلاف بين البلدين. ولا أفق واقعياً غير الاستماع لهذا المنطق، فلا الدولة في المغرب تقبل التقسيم على أساس صحراوي، ولا الجزائر تقبل التقسيم على أساس قبائلي أمازيغي. الشيء الوحيد الذي تحقق خلال نصف قرن هو استنزاف البلدين في حروب الوكالة.
ما يمكن أن تحتفل به الجزائر أيضاً، هو فتح أفقٍ للحوار مع المغرب، وفتح صفحة جديدة معه على قاعدة “خيركم الذي يبدأ بالسلام”.

هل تريد التعليق؟