قد يصح وصف مجتمع في شقاق على المجتمع الإسرائيلي، فهو مكون من أخلاط اثنية (أقوامية) ودينية ومذهبية ومنقسم سياسيا واجتماعيا لا يوحده غير العداء للعرب والفلسطينيين. غير أن الصهيوينة نجحت في توحيد المجتمع المنشق المتنافر وصاغت منه دولة حديثة تمكنت من هزيمة العرب جميعا. وكشفت التجربة أن مجتمعاتنا نحن في شقاق على رغم وحدة الدم والدين والحضارة والتاريخ والآلام. فمن فرّقه الدم والعرق اشترك بالدين، ومن فرّقه الدين اجتمع بالدم والعرق، ومن فرّقه الاثنان جمعته الحضارة والتاريخ، هذا نظريا. في الواقع انقسمنا على كل شيء، ولم توحدنا حتى الدولة التي يفترض انتماء المواطنين إليها.
لعب الجيش الإسرائيلي الدور الحاسم في توحيد المجتمع الإسرائيلي وبناء دولة الاحتلال، وحتى اليوم لا شيء غير العقيدة القتالية يوحد دولة الاحتلال. ومع ذلك فالجيش الإسرائيلي ليس أداة ردع وقتال (أي إجرام وتدمير بالنسبة لنا)، وإنما هو أداة توحيد وتنمية للمجتمع. فعلى سبيل المثال تشكل شركات تقنية المعلومات الإسرائيلية عمادا مهما من أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي، وفي داخل الشركات المعولمة يتعارف الخبراء الإسرائيليون على أنفسهم من خلال وحداتهم العسكرية السابقة التي خدموا فيها، والتي سيخدمون فيها حال دعوتهم إلى الاحتياط.
في الأردن لعب الجيش دورا مشابها إلى حد كبير. فالجيش بني قبل الدولة وساهم بامتياز في حفظ بقائها. المجتمع الأردني ما كانت تخلو عائلة فيه من منتسب للجيش وهو لم يكن مجرد مشغل فقط. التنمية البشرية اعتمدت بشكل كبير عليه، أبناء البوادي والقرى المعدمة والمخيمات كانت تتوحد حياتهم في سنتي الخدمة الإلزامية. وبقدر ما كان يخفض مستويات اجتماعية كان يرفع مستويات عديدة. فأحد أعمامي عرف المُربّى عندما التحق بالقوات المسلحة. وفي مجاهل الصحراء ما كان ليصل غير مدارس الثقافة العسكرية عندما عجزت وزارة التربية والتعليم.
النهضة الطبية التي تشكل اليوم موردا أساسيا من موارد الاقتصاد ما كانت لتتم لولا الخدمات الطبية الملكية في القوات المسلحة. وكبار الأطباء اليوم في التخصصات كافة قل أن تجد فيهم من لم يمر على الخدمات الطبية. وآلاف مؤلفة من الطلبة في التخصصات الجماعية ما كانوا ليتمكنوا من دفع أجور مواصلاتهم لولا المكرمة الملكية لأبناء العاملين في القوات المسلحة.
غير أن الدور الذي افتقده المجتمع منذ عقد ونصف هو الصهر الاجتماعي الذي كانت تحققه الخدمة الإلزامية. في تلك الحقبة لم يكن شقاق المجتمع كما هو اليوم. كان التفاوت الاجتماعي والثقافي محدودا والأكثرية تتجمع في الوسط. الطبقة الوسطى كانت تشكلها الدولة فهي التي تعلّم وهي التي تُشغّل، وبمجرد أن تكون موظفا عسكريا أو مدنيا أنت فوق خط الفقر. المدارس الحكومية كانت تخرج أوائل المملكة والجامعات الحكومية كانت غاية المنى. المدارس الخاصة لم تكن تتعدى أصابع اليد الواحدة، الصورة اختلفت كثيرا اليوم.
نشأت جزر اقتصادية وثقافية واجتماعية معزولة عن بعضها. طلاب يدرسون في رياض أطفال أقساطها أكثر من الجامعات، ومدارسهم تبني جدارا عازلا بينهم وبين مجتمعهم، وفي الجامعة ينفصلون عنه تماما بدراستهم في الخارج. يعودون إلى مجتمعهم مستشرقين، أجسادهم على الأرض لكن عقولهم وخيالهم في العالم الآخر الذي يشدهم إليه. يبنون جيتوهاتهم (معازلهم) التي تسمح لهم بالعيش بعيدا عن “الأغيار”، وفي تلك المعازل تتراوح النظرة إلى “الغير” الذي قد يكون ابن العم أو الجار ذات يوم، بين الشفقة والازدراء. النظرة المقابلة لا تقل سوءا. وقاعدة الجاحظ “من جهل شيئا عاداه” تنطبق تماما على حال مجتمعنا.
لا تحل إعادة الخدمة الإلزامية مشكلا اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا في ثلاثة أشهر، غير أنها تسهم في الحل، وتجبر مكونات المجتمع على الانفتاح على بعضها وبناء الجسور بين الجزر المعزولة. لا شك أن الخدمة الإلزامية لمدة عامين كانت عبئا ثقيلا، أما ثلاثة أشهر فهي معقولة، والتخطيط الجيد لها سيجعل منها فرصة لبناء ثقافة مجتمعية مشتركة وتفتح آفاقا للتدريب وإيجاد فرص عمل. هي خطوة مطلوبة وتظل العبرة في التطبيق، حتى لا يظل المجتمع في شقاق.
هل تريد التعليق؟