في عام التحول الديموقراطي 1989 استعان مروان المعشر الذي كان يعمل في رئاسة الوزراء بواحد من أهم خبراء استطلاع الرأي في المنطقة لمعرفة اتجاهات الناخبين. قد تكون تلك بداية دخول استطلاع الرأي بوصفه إحدى أدوات البحث العلمي في العمل السياسي الأردني. طوني الصباغ كان قد أجرى في الستينيات استطلاعات سياسية في لبنان لكن الركود السياسي في العالم العربي جعل خبرته تتركز قبل 89 على التسويق والشركات.
ظلت الاستطلاعات “سرية” تعمل لحساب صانع القرار، إلى أن استعان الدكتور مصطفى الحمارنة بالصباغ مجددا في تأسيس وحدة استطلاع الرأي في مركز الدراسات الاستراتيجية عام 1993 وكانت تلك الوحدة نقلة على مستوى عربي في استخدام إحدى أدوات البحث. انتقلت خبرة الصباغ إلى جيل جديد من الباحثين مثل الدكتور محمد المصري والدكتور فارس بريزات وغيرهما. تجربة المركز مكّنت واحدا من أبناء قرى الشمال القصية (النعيمة) من الابتعاث لدرجة الدكتوراه في واحدة من أرقى الجامعات البريطانية (درم).
لم تعد خبرة المصري محلية، عمل على مستوى عربي، مثل دراسة العشيرة في اليمن والأردن وفلسطين والعراق، ولعل المشروع الأهم هو اتجاهات الرأي العام العربي نحو الوحدة العربية، الذي ينسقه مع مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في11 بلدا عربيا. وستشكل نتائجه حدثا إعلاميا وسياسيا.
ذلك الحضور العربي للمركز، ما كان ليتحقق لولا الأساس المتين في بلد المنشأ. فالمركز بصورته الحالية هو وليد تحول عام 89، فمصطفى الحمارنة تحول من “ممنوع من التعيين” إلى شريك في القرار على أعلى مستوى. وتمكن من استخدام ما تمتع به من نفوذ لتحقيق استقلالية للمركز وباحثيه.لم يكن مركزا لصانع القرار بل هو للمواطن دافع الضرائب.
لعل أهم ما قرأت لمحمد المصري المقدمة المذهلة التي كتبها للطبعة العربية من كتاب المؤرخ العالمي هوبزباوم “عصر رأس المال” الذي ترجمه قامة بحثية أخرى في المركز هو الدكتور فايز الصياغ. وتلك أهم من إجراء مسح إحصائي واستطلاع رأي، تكشف العمق الفكري والعلمي لمن يعد الاستطلاع ويحلل نتائجه.
ليست كلمة آل الفقيد في حفل تأبين محمد المصري، بل هي رد على محاولة الاغتيال المعنوي التي تعرض لها والنيل من سمعته سواء أن من يصدرها مرشحون متنافسون على النيابة، أو منافسون يريدون تحويل المركز مطية لتحقيق نقلة “من الإدارة إلى الوزارة”.
بقدر ما يعتز المتابع بإنجازات المركز على مستوى الابتعاث وتأهيل الباحثين وتدريبهم ونشر الدراسات والكتب والاستطلاعات، يصاب بخيبة أمل من باحثين يعتقدون أن التمسك بالمناصب، وعدم الرضوخ للتقاليد الأكاديمية في المداورة وإعطاء كل باحث حقه في ممارسة الإدارة، يستحق التضحية بأخلاقيات العلم والزمالة. لقد مر المركز باختبارات قاسية في تاريخه لكنه نجح في القبض على جمر الاستقلالية. والمأمول أن يظل قابضا على جمرها.
هل تريد التعليق؟