تنتصب الكاميرات على ظهر استراحة صور، باتجاه الجنوب. فما أن تنهمر الصورايخ على الإسرائيليين حتى تبدأ الغارات الإسرائيلية على الأحراش والبساتين المحيطة بمدينة صور وخصوصا في القسم الجنوبي والشرقي من المدينة. الغارات الإسرائيلية تبدو مدمرة ومتنوعة في آن.
قصف البارجة يصفه الصحافيون المحتشدون في الاستراحة السياحية
بـ” السمفونية ” فهو يمتد لفترات طويلة وصوت الإطلاق والانفجار ليس مدويا، كما قصف الطائرات الحربية. فتلك تهتز لها جدران الاستراحة. وتتصاعد طويلا أعمدة الدخان من المكان المقصوف. الأخف صوتا والأثقل ظلا هي (الإم كي) طائرة الاستطلاع التي لا تمل من التحليق، ويدلّعُها الجنوبيون بـ”أم كامل”. مهندس الإرسال في الفضائية اللبنانية بيير رزق قال: ” لن أتمكن من النوم بعد انتهاء الحرب إلا بعد تشغيل ماكنة الحلاقة الكهربائية”، في إشارة إلى صوت طائرة الاستطلاع التي لا تتوقف على مدار الساعة والذي يشبه صوت الماكنة.
كل تلك الطائرات، وعمليات وحدات الكوماندوس لم تمنع الصواريخ من العمل. الصحافيون باتوا يميزون نوعية الصواريخ التي تنطلق من المزارع والأحراش فالصاروخ “المحترم”، على رأي صحافي، يغطي الحرب منذ بدايتها ” يصدر صوتا مديدا وذيلا من اللهب يمتد طويلا”، الصورايخ الصغيرة بالكاد تسمع وسريعا يتلاشى ذيلها القصير بالأفق.
مقاتلو حزب الله لا يزالون موجودين لكن لا أحد يراهم. ويتداول الصحافيون قصصا محدودة عن مشاهدات عابرة ومصادفة لمقاتلي الحزب الذين يتجنبون بشكل مطلق الحديث إن صادفهم أحد. ” كامنون ولا يظهرون إلى ساعة الالتحام”. الرعب لا يزال يسكن قلب زكريا المصور التلفزيوني الذي تاهت سيارته بالمزارع هو والفريق الصحافي. مر من أمامهم سريعا مقاتل من حزب الله، مخاوف المصور التائه جعلت نظره معلقا بالسماء خشية أن تكون”أم كام ” قد لاحظت المقاتل.
القصف الإسرائيلي غير المسبوق في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية دمر بنية لبنان وخصوصا في الجنوب، لكنه قوى من بنية حزب الله. فهو حركة مقاومة تتغذى من المواجهات وهو إذ يعرّفه الأميركيون والإسرائيليون بحركة “إرهابية” يعرّف نفسه بأدبياته “حركة إيمانية جهادية تتعاطى الشأن السياسي”. ومع أنه يحمل “مشروع أمة” إلا أنه يقوم على أكتاف طائفة. لم يكن الأمر يحتاج إلى شديد ذكاء للتأكد من أن طائرات (أم كي) التي اغتالت شابا لبنانيا في صيدا أنها أخطأت هدفها. فالشاب سني، وحزب الله مقصور على الشيعة.
ما يخشاه محللون في الشأن اللبناني أن “يتعرقن لبنان” في ظل استمرار الحرب. فالسنة في العراق “طائفة تحمل مشروع أمة” والطوائف الأخرى – كما لبنان– غير مشاركة في المشروع أو رافضة له. الحرب لم تخسر حزب الله أيا من أنصاره، بل زاد تمسكهم بـ”سيد المقاومة” في كل المجازر التي غطيتها(قانا الثانية وصريفا وسلع وغيرها) كانت النسوة المكلومات يختمن بكاءهن بالدعاء إلى الله أن يحفظ السيد حسن نصرالله. وفي الوقت الذي تمكن حزب الله من اجتياح الشارع العربي والإسلامي وخصوصا في قلب العواصم السنية (القاهرة، اسطنبول..) إلا أنه لم يحقق إلا مكاسب يسيرة من الطوائف الأخرى في لبنان؛ جزء من السنة مثل الجماعة الإسلامية في لبنان (الإخوان المسلمون). والحركات الوطنية يسارية أم قومية.
يعلم الحزب مدى قوته العسكرية. وهي قوة تزيد قدرتها على الفعل في حال حصول اجتياح بري. ومن الواضح أن حليفيه إيران وسورية لن يتخليا عنه، والشارع العربي والإسلامي(مع أنه لا يملك غير المظاهرات والتبرعات) سيزيد تأييده للحزب الذي غدا جسرا بين السنة والشيعة.
الحرب دخلت مرحلة العادية والرتابة. هذا في شقها العسكري والسياسي، أما شقها الإنساني فهو الذي لا يمكن – أقله أخلاقيا– أن يدخل هذه المرحلة. الصحافيون الذين اعتادت كاميراتهم على الدمار والدخان والانفجارات، يتمنون ألا يشاهدوا آثار الغارات التي تفتك – أول ما تفتك–بالمدنيين العزل.
هل تريد التعليق؟