قرئ كتاب الراحل صموئيل هنتنجتون “صدام الحضارات” بأنه دعوة للصراع، والواقع أن الكتاب كان صيحة تحذير ذكية ترصد اتجاهات المجتمعات البشرية، فدور الدين في الحضارات مرشح لدور أكبر. وهو ما يعني أن الصراع سيكون بين الثقافات لا على المصالح. وإلى اليوم يتجاهل كثير من المحللين والمثقفين دور الدين ويقللون من أهميته لصالح اعتبارات المصالح الاقتصادية والسياسية.
في الاستطلاع الذي أجراه جالوب (وشمل 143 دولة) تصدرت مصر قائمة المجتمعات التي تولي أهمية كبيرة للدين. وأظهر الاستطلاع أن نسبة التدين في مصر بلغت 100 في المائة ممن شملهم الاستطلاع بينما تفاوتت نسبة التدين في دول عربية أخرى لتصل في لبنان مثلا إلى 86 في المائة.
ومع أن الأرقام تحتاج قراءة معمقة لكل بلد وتحديدا مصر، إلا أن المركز قدم قراءة تقليدية عامة تربط بين الفقر والدين “يرى القائمون على الاستطلاع أن القاسم المشترك بين المجتمعات الأكثر تدينا هو الأوضاع الاقتصادية، حيث تشير نتائج الاستطلاع أن ثمانية من أصل 11 دولة الأكثر تدينا حول العالم هي من الدول الفقيرة. بينما الدول الأقل تدينا في القائمة هي دول غنية ومنها السويد واليابان”.
وعلى أهمية العامل الاقتصادي في بناء شخصية الإنسان ومنها الدين، إلا أن ثمة عوامل لا تقل عنه وتفوقه أحيانا. فالاستطلاع بني على أساس نظرية شائعة تقول إن الأميركيين أكثر الشعوب تدينا. وتبين أن من يرون عالميا أن الدين مهم في حياتهم بلغوا 82 في المائة، ومتوسط الأميركيين بلغ 65 في المائة. ومع أن ذلك يغري بتفنيد النظرية الشائعة إلا مقارنتها بأرقام دول مثل السويد17 في المائة واليابان 25 في المائة يعززها. وفي التفاصيل يبدو تفاوت بين الولايات المتحدة الأميركية وتجد مفارقات تظهر أن ثمة عوامل مركبة غير العامل الاقتصادي وحده تلعب دورا في تقدير أهمية الدين. فتجد المسيسبي مساوية للبنان وإيران مساوية للألباما وجنوب كارولاينا مساوية لزيمبابوي والعراق مساويا للويزيانا!
ثمة جانب فطري في التدين يجمع بني البشر، يتدنى إلى 17 في المائة في السويد (مع مراعاة نسبة سكان السويد لبني البشر ) ويرتفع إلى مائة في المائة في مصر. وبالمتوسط عالميا وبمعزل عن الظروف الاقنصادية والاجتماعية والسياسية يصل إلى 82 في المائة. وحتى يضمر الجانب الفطري أو ينمو ثمة عوامل مركبة. منها الاقتصاد. وربما تكون التربية على مستوى الأسرة والتنشئة المجتمعية تلعبان الدور الحاسم. وهو ما يختلف من دين لآخر. فالاستطلاع يظهر قوة الدين الإسلامي ومدى حضوره في حياة الأفراد والمجتمعات. فالدول العشر الأكثر تدينا على مستوى العالم منها ثمانية مسلمة. فالإمارات العربية المتحدة، وهي من أغنى دول العالم وأكثرها عولمة تشترك مع جيبوتي وهي من أكثر دول العالم فقرا وعزلة.
لماذا مصر الأكثر تدينا؟ يجب ألا يغيب عن البال أنها شهدت ميلاد الحركة الإسلامية الحديثة على يد الإمام الشهيد حسن البنا الذي مرت ذكرى اغتياله الأسبوع الماضي. وهذا لا يقلل من دور الأزهر والعلماء والمفكرين والدعاة، خصوصا إذا ربطنا استطلاع التدين باستطلاع معهد جالوب حول تطبيق الشريعة الإسلامية والذي أظهر أن تسعين في المائة من المصريين يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية. فالحركة انتسب لها الملايين منذ تأسيسها، وامتد تأثيرها إلى العالم بأجمعه. وهي حركة دينية بالأساس قبل أن تكون سياسية. سعت بحسب استراتيجية البنا إلى بناء “الفرد المسلم فالمجتمع المسلم فالدولة المسلمة”. وقد نجحت في نشر الدين وإشاعة قيمه. وقل أن تجد مسجدا في العالم العربي والإسلامي لم يمر عليه دعاة الإخوان. ولفهم العامل الديني في حركة الإخوان يسترشد في غزة التي غدت تحت حكمهم منذ الحسم. تم تخريج 40 ألف حافظ للقرآن الكريم. هذا لا علاقة له بفتح المعابر أو إغلاقها.
ومن الطرائف أن صحافيا أصر على حضور تدريبات لكتائب القسام أثناء لقائه مع القيادي محمود الزهار. فقال له إن الوضع الأمني لا يسمح. فأصر الصحافي. فقال له احضر في الثانية عشرة ليلا. فحضر وأخذه إلى مسجد الخلفاء الراشدين فوجد شبابا يقيمون الليل فانتظر حتى انتهوا، فأخذوا يقرؤون القرآن. فقال له أين التدريب؟ قال نذهب لمسجد آخر وظل يتنقل به يشاهد ذات المناظر حتى أذّن الفجر. فقال أين التدريب؟. أجابه: ما شاهدته. حقيقة أن قوة الدين هي التي تلعب الدور الحاسم في الحركات الإسلامية سواء كانت مقاومة أم سياسية.
نجحت الحركة الإسلامية في تفعيل قوة الدين في المجتمعات، إلا أنها ظلت قوة يلوذ بها الفرد لتحقيق توازن داخلي أو قوة مقاومة ضد المحتل أو احتجاج ضد الأنظمة. إلا أن التحدي تحويلها إلى طاقة للنهضة في ظل الانحطاط الذي نعيش. أين مصر من النهضة اليوم؟
هل تريد التعليق؟