تستدعى الهويات الفرعية، وليس مثل المأساة ما يستعجل هوياتك الأولية، وفي الجريمة البشعة أكتشف هويتي من معان المدينة، وتتحدد أكثر إلى عشيرة الكراشين وأكثر إلى عائلة أبو هلالة، لأكون من أولياء الدم. وأطلب ثأري، فالدم لا ينام.
من السهل أن ينقاد الناس لغريزة الانتقام والثأر، والجريمة البشعة التي تمثلت في قتل شباب عزل يكدون لكسب لقمة العيش، والتضامن مع القاتل في هياج جماعي عبّر عن أسوأ ما في مجتمعنا، واستدعى رد فعل غاضبا استهدف الحلقة الأضعف في محافظة معان؛ مؤسسات الدولة.
وما لا جواب له أين ستتوقف المأساة، وهل الثأر الأعمى من عشيرة القاتل سيوقف النزف أم أننا سندخل في حلقة قتل جهنمية لا تتوقف؟ وحتى لو قبض على القاتل وأعدم، هل يحل الوئام محل الخصام ؟
كان يمكن أن تكون الحادثة معكوسة. فظاهرة العنف الاجتماعي لا تستثني منطقة ولا عشيرة، وما حصل لا يعبر عن شجاعة القاتل ولا عن جبن المقتول؛ هي لحظة شيطانية فاضت فيها أرواح بريئة أزهقت ظلما وغدرا وعدوانا. والشجاعة اليوم تتطلب القصاص من القاتل، تماما كما تتطلب التحلي بخلق العفو والصفح والمغفرة. وعلى أولياء الدم كما على ذوي الجاني التخصيص لا التعميم “فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل” “ولا تزر وازرة وزر أخرى”.
نخون أنفسنا إذا قدمنا الهوية الفرعية على الهوية الجامعة. حقيقة أفتخر بأني من قوم تحلوا بالشجاعة حين خافت الناس وكانوا بهبتهم في العام 1989 بوابة تحول ديمقراطي لو أخذ مداه لما وصلنا إلى درك “العنف الاجتماعي”. في نيسان من ذلك العام كانت معان المدينة ليست عنوان توحيد للمحافظة، بدوا وفلاحين ومدنيين، بل عنوان توحد البلاد.
لا يحتاج أبناء معان إلى إثبات شجاعتهم في مواجهة عمل إجرامي جبان، ومظاهر الغضب الأعمى التي استهدفت مرافق للدولة ومحلات تجارية لإخوانهم البدو، كانت ردة فعل على ما اعتبروه تقصيرا في معالجة الإشكال لحظة حصوله، إذ قطعت الطريق وقتل سائق من خارج المدينة بطريقة وحشية لاإنسانية وتعرضت محلات أبناء المدينة وسياراتهم للاعتداء.
تندرج الهويات الفرعية في ظل الهوية الجامعة، هل يمكن أن نفصل ابن البادية هارون الجازي الذي قاتل على أسوار القدس عن هملان أبو هلالة الذي استشهد فيها؟ الأول من بادية المحافظة والثاني من المدينة، وكلاهما حملا السلاح في قضية كبرى عادلة، وعبرا عن التضحية في مكانها الصحيح.
تستحق القدس التضحيات، والعدو ليس الصهاينة فقط، العدو أيضا الفقر والظلم والفساد والجهل والتخلف. من المحزن أن من قضوا في الحادثة المؤسفة كانوا يكدون في سبيل العيش الكريم، ومعان مدينة وبادية ما يزال الفقر ينهشها وهي أحوج ما تكون للتنمية. والأصل أن يكون مشروع الديسي نعمة على المنطقة كلها لا نقمة. وحتى يلتئم الجرح نحتاج إلى حرب مفتوحة مع الفقر، لا حربا مفتوحة بين الإخوة. وتلك مسؤولية عامة للدولة يجب أن تجند فيها جهود القطاعين العام والخاص. والحضور الأمني للدولة يجب أن يسبقه حضور في التربية والتعليم والزراعة والإنتاج.
هذه هي قضية أبناء المحافظة، كيف يمكن أن يرفعوا سويتهم الاقتصادية بالاعتماد على موارد المنطقة. وهي موارد هائلة تتمثل في المياه والسياحة (البتراء والعقبة ووادي رم) وقطاع النقل برا وبحرا. وتلك قضية وطنية عامة لا مناطقية خاصة. والأمل أن تتحول المحنة التي تمر بها المحافظة اليوم إلى منحة. وإن كان ذلك صعبا فإنه ليس بالمستحيل.
هل تريد التعليق؟