أكتب عن الرئيس البخيت، وقد عرفته خلال عقد من الزمن في أكثر من موقع، فلم أجده من نوع الذين تتبدل مواقفهم بتبدل مواقعهم. قبل عقد، كان القصر يفتح حوارا مع شباب الإخوان المسلمين، من خلال مكتب ولي العهد السابق الأمير الحسن بن طلال، وكان شبيبة الإخوان خليطا من معتدلين ومتشددين جمعتهم الصراحة في ذاك الحوار. أذكر في الطرف الآخر أحمد سلامة، المستشار الصحافي لولي العهد، وسكرتيره سمير الرفاعي، ومعروف البخيت العميد في القوات المسلحة، الذي لولا التعريف به لما عرفنا أنه عسكري!
السياسيون كانوا الأكثر حذرا وغموضا في التعامل مع الملفات الحساسة والأسئلة الساخنة، أما العسكري فكان يتحدث بوضوح. ومن أعقد الأسئلة، كانت تلك التي تخص العلاقة الأردنية-الفلسطينية في بعدها الداخلي؛ كانت وزارة الداخلية إذاك قد حولت جوازات سفر لفلسطينيين من مؤقتة إلى دائمة نتيجة عملهم في السلطة أو إقامتهم في الضفة الغربية، في ظل احتقان في العلاقة مع منظمة التحرير على خلفية تداعيات اتفاق أوسلو. تحدث البخيت بمعلومات لا أزال أستخدمها إلى اليوم، ومنها أن القوات المسلحة لم تكن لأبناء الضفة الشرقية؛ فحتى السبعينيات (من القرن الماضي) كان نصف منتسبي الكلية العسكرية التي تخرِّج ضباط القوات المسلحة هم من الضفة الغربية.
بعدها كان اسمه يتردد في المفاوضات واللقاءات والمؤتمرات الإستراتيجية، ولم يكن يغلق باب مكتبه في وزارة الخارجية أمام الصحافة. وخلافا لما نقل من معلومات بسبب أخطاء الترجمة في النقل عن الإعلام الأجنبي، لم يعمل البخيت في سلاح الاستخبارات طيلة وجوده في القوات المسلحة، وإنما عمل مستشارا في دائرة المخابرات العامة منسقا لمفاوضات الحل الدائم بعد التقاعد، وكان مقره في وزارة الخارجية.
عندما انتقلت للعمل في أنقرة قبيل الحرب على العراق، كان قد عين سفيرا فيها، وعندما وصلت كان غضب المسؤولين في عمان على الجزيرة قد بلغ حد إغلاق المكتب، وتوقيفي على إثر أحداث معان. لم أشأ أن أحرجه في ظروف كهذه. وعندما دعاني في يوم وصولي أنقرة الصديق معن شقير، أحد أعضاء سلك السفارة، إلى مطعم “رجب أسطه” سألني: هل ستمر على معروف باشا؟ قلت: أخشى أن أحرجه، فالعلاقة مع الجزيرة متوترة، والحكومة أغلقت المكتب. لكن قيس بادر إلى الإبلاغ عن تواجدي، لأفاجأ ليلتها باتصال من السفير، ولأجد تكريما في بيته وفي السفارة كشف عن معدن أردني أصيل لا تغيره المواقع. كانت نذر الحرب على العراق تتسارع، كان البخيت سفيرا يأخذ عمله بجدية، ولم يكن من الصنف الذي لا يرى في العمل الدبلوماسي مجرد تشريفات تقتصر على الاستقبالات والدعوات.
غادر أنقرة وقد ترك سمعة في الأوساط السياسية وحضورا لم ينته بانتقاله إلى تل أبيب التي عاد إليها بعد ترد في العلاقات على إثر انتفاضة الأقصى، وأحسب أنها من أصعب المهمات التي كُلف بها. فالحكومة الإسرائيلية يقودها يمين متطرف، والشارع الأردني لا تزال أكثريته الساحقة ترى في الإسرائيليين عدوا، وفي المقابل ثمة ضرورات دولة واستحقاقات مرحلة. صحيح أنه كان جزءا من مسيرة المفاوضات، لكن ذلك يختلف عن العمل على الأرض.
في حقبة سفارته، تعامل مع أعقد الملفات بجدية وجرأة. وقد كتبت في حينها أنه لو تعامل المسؤولون الأردنيون من قبل مع ملف الأسرى كما تعامل السفير البخيت لما كان اليوم أسرى أردنيون هناك؛ فقد كان قريبا من أهالي المعتقلين، ومستعدا لتلقي مكالمات من والدة سلطان العجلوني – فك الله أسره- وفي الوقت ذاته مستعد للاتصال بذوي الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا.
لا أريد أن أتورط أكثر في مدح مسؤول- صديق على رغم فارق الموقع والسن والقدر، وأختم بآخر أيام؛ فعقب التفجيرات التي هزت عمان، كان ثمة غضب على بعض وسائل الإعلام, ومنها “الجزيرة”، لكن ذلك لم يمنع من التواصل. وفي اللقاء، أوضح الصديق– المدير أمجد العضايلة مداعبا، أن ياسر جاء كاتبا في “الغد” لا مديرا لمكتب “الجزيرة”. في لقاء في الديوان الملكي تحدث مدير وكالة الأمن الوطني بأفق سياسي وفكري لا تجده عند سياسيين ومثقفين! لم يكن اللقاء للنشر، لكني اضطررت لنشر فقرة منه عندما شاعت أخطاء الترجمة “مدير المخابرات رئيسا لحكومة عسكرية وأمنية”، اضطررت لأن أقتبس منه ردا على سؤال: “على العكس، التأخر في الإصلاحات السياسية سبب من أسباب انتشار ثقافة الإرهاب”.
بعد تكليفه، لم يطالب بحل مجلس النواب وتعطيله، مع أن نوابا فعلوا ذلك! بل بادر إلى زيارة المجلس. وفي أول تصريح صحافي، تحدث بلغة غير مسبوقة، فالتعامل مع أعقد الملفات الأمنية يبدأ بمحاربة الفقر والبطالة وينتهي بالإعلام. وأحسب أن أصعب المهام لأي حكومة هي محاربة الفقر. لكن ما يدعو إلى التفاؤل أن الرئيس المكلف من طبقة وسطى، وابن بيئة أقرب إلى الفقر، وهذه ميزة تحسب له. ومن يدخل بيته في طبربور لا يجده مختلفا عن بيوت الطبقة الوسطى التي توشك على التلاشي لصالح طبقتين موغلتين في الغنى والفقر.
لا يضير الرئيس المكلف أن يكون ابن المؤسسة العسكرية، وقد كتبت من قبل أن من أفضل الحكومات تعاملا مع ملف الإصلاح السياسي حكومات ترأسها أصحاب خلفيات عسكرية وأمنية؛ وللتذكير فإن حكومة أحمد عبيدات (مدير مخابرات) أجرت الانتخابات التكميلية في العام 1984، وفيها فازت المعارضة بأكثرية المقاعد؛ والأمير زيد بن شاكر (المشير ورئيس الأركان) أشرف على انتخابات العام 1989 التي كانت الأكثر نزاهة؛ وبعدها كان مضر بدران (مدير مخابرات) أول من يشرك كتلة الإخوان المسلمين في الحكومة.
هذا لا يغمط من حق “المدنيين”، مثل طاهر المصري وعبدالكريم الكباريتي وغيرهما، لكنه لا يبرئ “مدنيين” زاودوا على العسكر والأمن، وأرادوا جعل البلاد ثكنة تأتمر بأمرهم! حتى عالميا، لا يزال كثيرون يترحمون على ديبلوماسية العسكري العريق كولن باول، ويتعوذون من عسكرية المدني العريق رامسفيلد؛ فالعسكري المحترف باول كان يعلم أي كارثة يمكن أن تجلبها الحرب على العراق، ولم يتمكن من لجم صقور الإدارة، وتحققت مخاوفه. وبالمناسبة، كانت استطلاعات الرأي تظهر أنه الأكثر شعبية في حكومة الجمهوريين.
غدا تؤدي الحكومة القسم، وما هي إلا أيام وتفقد الحكومة وهجها، وتبدأ السير في حقل الألغام الاقتصادية والسياسية. لا يحتاج الرئيس إلى مهنئين ومصفقين، بل هو بحاجة إلى من يصدقوه ويحذروه من حقول الألغام، والصحافة – إن قامت بدورها- أفضل عيون المجتمع والدولة، ومجتمع بلا صحافة حرة لا يرى بوضوح، هذا إن لم يكن أعمى.
أمام الرئيس فرصة سانحة لتسريع وتيرة الإصلاح، سياسة واقتصادا، فالظرف المحلي مهيأ تماما وكذلك الدولي؛ فماذا يريد رئيس أكثر من أن يقول مسؤول في أكبر حزب معارض أن الأجندة تشكل معلما في الحياة السياسية مثل الميثاق الوطني؟! هذا ما تحدث به عبداللطيف عربيات عقب تسلم توصيات الأجندة. ويستطيع الرئيس الجديد أن يستثمر هذا المناخ، وينتهز الفرصة، وبذلك يعيد الاعتبار إلى موقع رئاسة الحكومة الذي يتعرض للتآكل حسب استطلاعات الرأي.
هل تريد التعليق؟