في خضم السجال بين الحكومة والنقابات حول المهني والسياسي تتجلى أزمة المفاهيم في قضايا تكاد تكون بديهية, وهو ما يتطلب إيجاد قاموس دستوري وقانوني معتمد يفسر المفاهيم البديهية الملتبسة. فالحكومة عندنا هي مرجع التقليد للعامة بوصفها القادرة على تنفيذ اجتهاداتها بما تملكه من قوة عسكرية وشرطية. وفي هذا تهميش لدور المواطن الذي خُلقت الدولة لخدمته وحماية حريته وصيانة حقوقه .
الدولة في الدستورالأردني المأخوذ عن الدساتير الغربية ليست كائنا مقدسا منفصلا عن الواقع, كما دولة البروليتاريا أو دولة الحزب القائد أو الولي الفقيه …, إنها دولة المواطنين المكونة من مؤسسات منتخبة من بشرعاديين لا هم بالأنبياء ولا الأولياء ولا المناضلين ولا الفقهاء .. الوحيد المصان دستوريا من المساءلة والمحاسبة هو رأس الدولة, أي جلالة الملك الذي يرأس السلطات جميعا , وحتى لا يستغل مسؤول ذلك الاستثناء نص الدستور صراحة ” أوامر الملك الخطية والشفوية لا تعفي الوزراء من مسؤولياتهم “. وهذا لم يأت اعتباطا عند صياغة الدستور, فلا بد للحكومة من تحمل مسؤولياتها أمام المواطن دون الاختباء وراء الملك , صحيح أن الملك يشكل الحكومات ويرأس السلطة التنفيذية, لكن الحكومة قد تحجب عنها الثقة في مجلس النواب, تماما كما ان أحكام القضاء تنقض مع أنها تصدر باسم صاحب الجلالة.
مقولة ” التطاول على هيبة الدولة ” غير دستورية وغير قانونية وغير أخلاقية, خصوصا أن الدولة هنا تختصر بالحكومة المكونة من مواطنين عاديين. هل يعقل أن من يردد هذه المقولة لم يقرأ الدستور ولم يسمع قسم جلالة الملك أمام مجلس الأمة بأن يحافظ على الدستور ويخدم الأمة ؟
المواطن ليس أقصر قامة من الدولة حتى يتطاول عليها, لذلك لا يحاسب إن تعامل بندية معها, لكن المسؤول الحكومي يحاسب إن تعالى وتطاول على المواطن بوصفه هو الدولة وادعى حصانة ليست له.
الدولة هي دولة المواطنين , أي انها علاقة الشجرة بالغابة؛ فلا يجوز أن أقطع الأشجار بحجة حماية الغابة , وقيمة الغابة من قيمة كل شجرة فيها. طبعا ثمة من يرى أن المواطنين مجرد أرقام في دائرة الإحصاءات العامة, وأن الدولة هي دولة المسؤولين لا المواطنين .
الالتباس في مفهومي الدولة والمواطن يوازيه التباس أكثر خطورة في مفاهيم الأحزاب والنقابات والجمعيات, فهي أيضا وسائل لكنها طوعية لخدمة المواطن وليست إلزامية مثل الحكومة, فالمدرس ملزم بالذهاب للمدرسة لتعليم الجغرافيا لكن الحزبي ليس ملزما للذهاب للمظاهرة وإنما يفعلها طوعا لا كرها طمعا بالوصول للسلطة أو طمعا برضا رب العالمين لا فرق. كل المؤسسات الطوعية في العالم هدفها الوصول للسلطة سواء بمعنى السلطة التنفيذية كالحكومات أو التشريعية أو الأخلاقية, فالأم تيريزا أو الأب توتو لهما سلطان أخلاقي يضاهي ذهب الدول وسيفها.
النقابات في بريطانيا هي عماد حزب العمال الحاكم وفي أميركا هي أحد ركائز الديموقراطيين , كما أن الجمعيات الدينية أحد ركائز الجمهوريين, أما مراكز الدراسات فغدا لها سلطات “معرفية ” تعادل الكونجرس أحيانا.
لم تصدر تحذيرات حكومية من تدخل الأكاديميين بالسياسة ولا رجال الدين ولا النقابيين؛ ثمة انتقادات تقرؤها هنا وهناك لنفوذ اليمين الديني أو لمراكز الدراسات .
الأردن جزء من العالم الحديث, وليس العالم المنقرض, ولا يجوز أن نتحدث بمفاهيم دولة القرون الوسطى, النقابات لها رأي وتعبر عنه بطرق دستورية وقانونية, ومن حقها أن تسعى لتشكيل حكومة نقابية وليس التعبير عن آرائها بقضايا سياسية فحسب !
سائقو الشاحنات (وهم نقابة عمالية )عندما أضربوا واعتصموا هل كانوا يمارسون حقا دستوريا مشروعا أم كانوا خارجين على الدستور والقانون ؟ باستثناء حرق بعض الشاحنات كان عملهم دستوريا وقانونيا. ضمنا كان السائقون مؤيدين للمناطق المؤهلة التي تعارضها النقابات المهنية. الحكومة وقعت اتفاقا لمناطق مؤهلة مع أوروبا دون الاستجابة للعمال أو المهنيين, وهي مسؤولة أمام مجلس النواب عن توقيعها. هكذا تعمل الدولة وليس بفرمانات سلطانية أو مراسيم جمهورية لا يعارضها أحد .
الخلط والالتباس بمفاهيم الدولة والمواطن والنقابات والأحزاب ضحيته الأولى مفهوم السياسة, إذ تصبح عملا من اختصاص الحكومة دون غيرها, فهي تقرر متى يتحدث الناس ومن يتحدث وأين وفي أي موضوع هذا الحديث؛ أما الاعتصام والتظاهر والتجمع فتلك مسألة أكثر تعقيدا!
مفهوم المواطن يتضخم أحيانا عند من ينشطون في العمل العام نقابيا اوحزبيا تهون دونه الدولة, ويغدو النقابي أو الحزبي, وهو من لحم ودم مثل الوزراء, فوق المساءلة والمحاسبة بوصفه رمزا جامعا للوطنية ومن خالفه نهبا لاتهامات التخوين. لكن في دولة القانون والدستور الأمور ليست مفتوحة؛ فمن يخون ومن يشهرسواء كان مواطنا ام نقابيا ام وزيرا أم إعلاميا فثمة قوانين تحاسبه. والحكم يظل للقضاء في التمييز بين ما هو تعبيير وما هو تشهير .
أخيرا الأسرى الأردنيون في إسرائيل, وعلى رأسهم سلطان العجلوني مواطنون يجب أن تعلق صورهم على المباني الرسمية. إسرائيل حتى اليوم لم تنس بولارد وهو مواطن أميركي , لكنه يهودي ! كيف تنسى النقابات مواطنين أردنيين ومنهم مهندسون ؟
هل تريد التعليق؟