تبدو قضية الفيلم المسيء “فيلما” بذاتها، تجعل أمة محمد، ذات الإرث الحضاري والروحي، بخفة صبي يمكن استفزازه بطرق صبيانية؛ كالرسوم والأفلام المسيئة، وحرق المصحف. وتلك الاستفزازات لم نعرفها في تاريخنا إلى أن أصدر الخميني فتواه بحق سلمان رشدي، فخدم الإساءة للنبي من حيث أراد وقفها. وأي إساءة أبلغ مما حصل في بنغازي؟! وما ذنب أميركي بفيلم لا علاقة له به؟! وهل نرضى أن يتحمل مسلمو بورما جرائم البوذيين لأن طالبان دمرت أصنامهم؟!
يخدم المتطرفون بعضهم بعضا، وثمة تحالف موضوعي بينهم لا يخفى. فبعد 11 عاما على 11 سبتمبر، بدا أن كثيرا من الجراح التأمت؛ أميركا راجعت نفسها، والعالم الإسلامي راجع نفسه. والخلاف مع أميركا يكاد يقتصر عمليا على دعمها إسرائيل واحتلالها أفغانستان، وهي تمارس سياسة انسحابية من العالم تجلت في تعاطيها مع الثورة السورية. وزعيم القاعدة رحل بعد أن غير بوصلته مرحبا بالربيع العربي الذي دشن مرحلة التغيير السلمي، وقبله رحل المحافظون الجدد وتحولوا إلى المعارضة.
في ليبيا، تجلت نظرية “معاتيه” المؤامرة في التحالف الإسلامي الأميركي؛ فقد حظيت الثورة الليبية بدعم عسكري غربي، ورفعت أعلام أميركا والدول الغربية بدلا من إحراقها، في ظل ثوار جلهم إسلاميون، منهم من قاتل أميركا في أفغانستان والعراق. طبعا المعاتيه لا يقرأون مراجعات جدية أنجزت في ظل نظام القذافي؛ فالجماعة الليبية المقاتلة تحولت إلى السلمية وهي في السجن، وبعد الثورة لم تقم بتفجير صناديق الاقتراع. وعلي بلحاج الذي فتح طرابلس، حصل حزبه على ثلاثة مقاعد ورضي بالنتائج التي حصل فيها تحالف محمود جبريل الليبرالي على أعلى الأصوات. هذه الصورة المبهرة في ليبيا صححت كثيرا من الصور السلبية التي تراكمت منذ 11 سبتمبر.
ثمة من أراد تشويه الصورة. بدون تنسيق طبعا، ولا اجتماعات سرية، يلتقي منتج الفيلم المسيء للرسول عليه السلام، وهو أميركي إسرائيلي، مع جاهل تكفيري، مع فلول مبارك والقذافي وبشار. جميعا لهم مصلحة في مقتل السفير الأميركي بهذه الصورة الوحشية.
إسرائيل لا تريد علاقة طبيعية بين أميركا والعالم الإسلامي، والجهلة التكفيريون لا يريدون إسلاما معتدلا يعيد للدين دوره الحضاري؛ بل يريدون معركة مفتوحة مع العالم بلا نهاية. والفلول يريدون إثبات فشل الديمقراطية التي لا تأتي بغير المتطرفين. جميعهم فرحوا بمقتل السفير، ولسان حالهم: ألم نقل لكم، ألم نحذركم؟ الجريمة لا تحتاج إلى إدانة فقط، بقدر ما نحتاج إلى مشاريع عملية تحاصر هذا الحلف الدنس بين المتطرفين.
علينا أن نفهم الجماهير التي ثارت من أجل الرسوم المسيئة من قبل، بأن الغرب مختلف عنا في أفلامه وكتبه وثقافته، حيث انتهى من المقدس. ويمكن أن يذهب أي شخص إلى أميركا ويعلن عن ديانة خاصة به، ودستوريا تلزم الدولة بحماية معتقده. وفيها فن وسينما يسخران من الله عز وجل وجميع الأنبياء والأديان. مع ذلك، الأميركيون يحترمون التنوع، ولذا لم يجد الإسلاميون ملاذا في ظل الأنظمة القمعية غير الغرب، من راشد الغنوشي إلى عمر عبدالرحمن. مع ذلك، لنتذكر أن قاضيا أميركيا برأ مسلما اعتدى على ملحد سخر من النبي في حفل هالووين، وبحسب القاضي: “أعتقد أن آباءنا المؤسسين عندما وضعوا التعديل الأول من الدستور (الذي يضمن حرية التعبير) كانوا يهدفون إلى استخدامه حتى نعبر عما نفكر به، وليس لإهانة الأشخاص وثقافتهم كما فعلت”.
في ذكرى 11 سبتمبر كسب أعداء الإسلام والعروبة جولة جديدة. والمأمول أن لا تكون لها تداعيات كارثية.
هل تريد التعليق؟