مقالات

مواطنون وأقليات

يعكس النقاش حول مفهوم الأقليات في العالم العربي حجم الحساسيات التي تظلله وتمنع الغوص فيه بعمق من دون التقليل من حجم الجهل بأبسط المفاهيم الاجتماعية والسياسية وضعف الخبرة بما شهده العالم خصوصا في القرن الأخير. وهو أمر يثير القلق إن لم يكن الفزع. فالأقلية مسألة إحصاء سكاني لا تقلل من قيمة الأقل عددا سواء من جهة الطائفة أم العرق أم الثقافة وفي الوقت ذاته لا تزيد من قيمة الأكثر عددا.

ومهما قل تعداد أي مجموعة سكانية يظل التعامل معها هو المعيار لاحترام الحرية والتعددية وحقوق الإنسان، فالأكثريات تتمكن في الغالب من فرض حضورها كرها لا طوعا.

في الهند التي تعتبر عالميا أكبر الديمقراطيات يزيد عدد مسلميها على المائة مليون لكنهم في البلد القارة أقلية. في معيار التطور وصل مسلم إلى منصب رئيس الجمهورية وفي معيار التخلف لا يزال المسجد البابري التاريخي عرضة لهجمات متطرفي الهندوس. في الحال الأولى يشعر المسلم الهندي بأنه مواطن وإن قل تعداده وفي الثانية يشعر بالاغتراب عن بلده لأنه لا يملك سطوة الأكثرية.

في الباكستان الشيعة أقلية، ولذلك يستقوي عليهم المتطرفون، في المقابل الدولة الباكستانية لم تتعامل معهم أقلية مهضمومة الحقوق بل كانوا وما يزالون جزءا فاعلا من نسيج بلدهم على قاعدة المواطنة. وفي ظل ضوضاء العنف الطائفي ينسى الناس أن أبرز ثلاثة رؤساء حكومات في تاريخ باكستان كانوا شيعة برضى الأكثرية السنية.

الجولة البعيدة في شبه القارة الهندية ضرورية لفهم ما يجري في منطقتنا نظرا لتشابه تجربتها التاريخية وثقافتها مع منطقتنا. مع ملاحظة أن الأقلية مفهوم مرن وليس مغلقا. فكون الأكراد والأمازيغ أقليتين من ناحية عرقية الا انهما من ناحية دينية جزء من الأكثرية المسلمة، والعكس عندما نتحدث عن المسيحيين العرب فهم جزء من الأكثرية العربية ودينيا أقلية.

هنا لا يغفل العالم الخارجي لا في الأمس ولا اليوم، فالاستعمار ترك ألغاما في كل منطقة خرج منها، وحتى اليوم لا يزال موضوع الأقليات مدخلا للعب أطراف خارجية. يكفي موضوع دارفور مثالا فجا. فأهل دارفور هم أهل القرآن الذين حفظوه في خلاويهم، وظلوا جزءاً أصيلا من جهاد السودانيين في مواجهة الاحتلال البريطاني، لكنهم اليوم يستخدمون في متاحف الهولوكوست للتدليل على وحشية العرب في التعامل مع الأقليات الإفريقية. العامل الخارجي مهما كان مهما وحاسما لا يعفي مجتمعاتنا من مسؤولياتها. فهي فشلت في بناء دولة المواطنين، مع أن دساتيرها تحفل بالحديث عن المساواة بين المواطنين بغض النظر عن اختلافهم في العرق والدين والمذهب.

في سياق ثقافة الجهل توضع الأمة في مواجهة الفرد، فعندما نقول الأمة العربية كأننا نستثني الأعراق والثقافات غير العربية التي عاشت فيها وتفاعلت معها، تماما كما يتحول مفهوم الأمة الإسلامية إلى مفهوم طائفي يستثني غير المسلمين. مع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تعرف ما شهده الغرب الذي كان أول من طبق عمليا نظرية الإبادة والنقاء العرقي، سواء في التعامل مع السكان الأصليين في أميركا أو في تعامل النازيين مع اليهود.

بقي التذكير بأن الأقليات ليست دائما مظلومة فقد تكون ظالمة، كما في تجربة جنوب إفريقيا، إذ استعبدت الأقلية البيضاء الأكثرية السوداء من السكان الأصليين. ومارست ضدهم أبشع نظام فصل عنصري. قصارى القول إن “الأقلية” إشكالية عالمية لا تخص بلادنا من دون العالم، والتعامل معها يتطلب رؤية نقدية وإصلاحات سياسية واجتماعية تعلي قيمة المواطنة لا مداهنات فارغة. 

هل تريد التعليق؟