ستكون مادة دسمة للباحثين في فن الدعاية والتحريض والبروباغاندا، أكثر من ألف من مختلف الأجهزة الأمنية مجهزين مدربين لا يكتفون بما لديهم بل استعانوا بمناقل الشواء في ضرب المتظاهرين، يختفون من المشهد الذي يتصدره نيرون (ياسر أبوهلالة) الذي يريد إحراق عمان، مذكرا بصدام حسين الذي هدد يوما بإحراق نصف إسرائيل. طبعا نيرون لا يملك ترسانة صدام وصواريخه، ولا منقل شواء.
تلك الحملة التحريضية لا تقف وراءها مؤسسات “خاصة” أو أفراد في مواقع إلكترونية أو إذاعة أو تلفزيون، بل في صلبها إذاعة الأمن العام الممولة من جيب دافع الضريبة، الأمن الذي يفترض أن يجسد سلطة القانون الذي يجرّم التحريض والقذف والتشهير والتحقير. وهنا، كما قلت في ساحة النخيل، المشكلة ليست مع أفراد بل مع المدير الذي يتحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية. وقد سبق أن اتصلت مرارا بالمقدم محمد الخطيب شاكيا ومنبها وطلبت منه إيصال الشكوى للمدير في أكثر من مناسبة تحريضية.
لجنة التحقيق أكدت ما وثّقته الكاميرات، وظهر أن الصحافيين لم يشوهوا صورة البلاد. ولكن اللجنة لم تجب وهي ليست مهيأة على السؤال الجوهري: لماذا حصل ما حصل؟ ببساطة، الأفراد والضباط يتعرضون يوميا للتحريض، والصحافي والمتظاهر هم أعداء للوطن يتآمرون عليه. ولم يسبق أن جرت مساءلة أو محاسبة على أي مستوى، فلماذا لا يبطشون؟
لا أضيف على ما كتبه الصحافيون الأحرار في بيانهم الجامع، ولا على ما كتبه ياسر زعاترة في “الدستور” وفهد الخيطان في “العرب اليوم”، وصفا وشرحا وتصحيحا، فضلا عن ساعات وثقتها الكاميرات. تلك الموقعة استقرت وجعا في الضمير تجسده صورة سامي المحاسنة مهشما بين أطفاله، وهو لم يهدد بإحراق عمان!
بالنتيجة كانت عمان بفضل الأجهزة الأمنية خبرا أول تقدم على مجازر سورية وليبيا، ليس في “الجزيرة” وإنما في الـ”سي. أن. أن” والنيويورك تايمز. بعدها يخيّرنا وزير الداخلية القومي الديمقراطي، بحسب ما وصفته في تقريري على “الجزيرة” يوم التعديل، بين أن نكون صحافيين أو نكون متظاهرين. ولغايات الحوار لنفترض أن صحافيا قرر التحول إلى متظاهر، هل يحق للشرطة أن تضربه بمنقل؟
على عراقة الديمقراطية الأميركية، أحرق الأميركيون من أصول أفريقية في الثمانينيات لوس أنجلوس عندما تعرض واحد منهم لاعتداء على يد الشرطة ولم ينصفه القضاء. وقتها لم تشن حملة على الغاضبين الذين مارسوا العنف الأعمى، العكس حصل وتمت محاسبة الشرطة ولم يحاسب المواطن الغاضب.
لست صحافيا أميركيا يعمل في عمان، أنا مواطن أردني لي كامل حقوقي، ولا أفكر بالهجرة على مغرياتها المالية والمعنوية. باق هنا لأشارك في بناء وطن أجمل، وطن نظيف من الفاسدين، وبيني وبين الخصوم القضاء الأردني، وفوق ذلك “الله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين” موعدنا “يوم تبلى السرائر، فما له من قوة ولا ناصر”.
مشكلة المسؤولين في الأردن أنهم يعتقدون أنهم مخلدون، متناسين أن متوسط عمر الحكومة في الأردن أقل من سنة. يستثنى هنا طاهر العدوان الذي انحاز إلى تاريخه ومستقبله ولم تخدعه بهجة المنصب الراهن. خلال عقدين من عملي الصحافي أشاهد الصحافة اليوم في أزهى مراحلها على رغم الهجمة عليها. وما حصل قوّاها وعزز حضورها وكشف أصالة معدنها.
هل تريد التعليق؟