ذ، وتعبيرا عن شقاق في الإدارة بعد غرقها في المستنقع الأميركي. من زاوية ثانية يمكن النظر لتصريحات فرناندز باعتبارها في سياق حركة تصحيحية داخل الإدارة. فتعبير “غطرسة إمبريالية” هو عنوان الكتاب الذي أصدره مايكل شوير مسؤول الوحدة التي كانت مكلفة بقتل ابن لادن في وكالة المخابرات الأميركية السي آي إيه.
لم يكن شوير يعمل على طريقة بعض المسؤولين الأردنيين الذين يتحولون للمعارضة عقب التقاعد، ألف كتابه وهو على رأس عمله، لذلك صدرت الطبعة الأولى بدون اسم المؤلف. وعندما ترك الوظيفة أعلن عن اسمه ولم يبدل آراءه التي ناضل لأجلها وهو في الوظيفة. باختصار يرى شوير أن القضايا التي تناضل لأجلها القاعدة عادلة، والمسلمون هم الطرف المظلوم فيها (فلسطين، العراق، كشمير، الشيشان وغيرها). صدر كتابه قبل غزو العراق. وبعد الغزو اعتبر أن العراق غدا “مغناطيسا” للجهاديين كما كانت أفغانستان في عقد الثمانينات.
وقتها مارس شوير ما مارسه من قبل -سرا- ضابط البنتاغون الذي سرب وثائق الحرب في فيتنام للصحافة. وما مارسه لاحقا مسؤول الإف بي آي (مكتب التحقيقات الاتحادي) في فضيحة الووتر غيت، عندما سرب معلومات عن تجسس الرئيس نيكسون على معارضيه. تصريحات فرناندز تقرأ في هذا السياق. وهي لا تختلف عن نهر المعلومات المتدفق في كتاب بوب وودورد من روافد تسريبات كبار القادة العسكريين والسياسيين والأمنيين. في الكتاب مثلا معلومات عن غباء لا تقع فيه مخابرات الحكومة الصومالية المؤقتة، معلومات من مكتب تشيني عن أسلحة التدمير الشامل في العراق، المعلومات تحدد الإحداثيات بدقة. السي آي إيه تتبعت إحداثيات المخبأ وتبين أنه مدينة بيروت!
لم أتصل بالصديق ألبرتو فرناندز مستوضحا قبل المقال، وسأفعل بعد النشر. واخترت أن أعرّف القارئ بالمسؤول الأميركي وليقرر هل كانت التصريحات خروجا عن النص أم هي تصحيح داخلي ربما كانت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بصورته؟
عرفت فرناندز في عمان أثناء عمله ملحقا ثقافيا وإعلاميا في السفارة الأميركية في عمان. في مطلع الألفين كانت الأوضاع تتجه للتصعيد في المنطقة عقب انتفاضة الأقصى. وتوج التصعيد بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر. في تلك الغضون تعرفت على فرناندز الذي يتقن العربية بلكنة سورية. كان يتحدث بانفتاح غير معهود بالدبلوماسيين الحذرين، يحكمه الإخلاص لبلاده بمعزل عن الفريق الحاكم جمهوريا كان أم ديموقراطيا صائبة كانت سياسة الحكومة أم خاطئة.
سيرته جعلته أقرب للجمهوريين، فهو من عائلة كوبية من العهد البائد الذي دمره نجوم اليسار من جيفارا وكاسترو وغيرهما. والده ترأس الوحدة الأمنية التي تخصصت في محاربة الشيوعيين في كوبا (واضح أنها فشلت!) ودفعت الأسرة ثمن نجاح الثورة.
في عمان لم يتوجه إلى “النخبة المنبهرة بأميركا” حرص على إقامة حوارات وصداقات مع إسلاميين ويساريين وسائر معارضي “الغطرسة الإمبريالية”. عندما اعتقلت في معان أثناء تغطيتي لمظاهرة مؤيدة لبن لادن تزامنت مع قصف تورا بورا كان أول المتصلين مهنئا بالسلامة ومستنكرا الاعتقال. شعرت بالفرق بينه وهو يمثل الحكومة التي تخوض حربا عالمية ضد بن لادن وبين موقف رئيس الوزراء آنذاك علي أبو الراغب الذي قال لنادي المراسلين الأجانب إن ياسر هو الذي أخرج أقاربه في مظاهرة في معان!
بعد خدمته في عمان انتقل إلى العمل في كابول. استغرب يومها كيف أن الخارجية متخصصة بكابول ومناطق الطاجيك الموالية لأميركا في حين كانت مناطق البشتون من اختصاص وزارة الدفاع. من منطقة ساخنة في كابول انتقل إلى بغداد الأسخن. ألخص عمله هناك بالتقرير الذي صدر باسم السفير زلماي خليل زاد وتسرب للصحافة البريطانية. ذلك التقرير شكل أول اعتراف رسمي بتدهور الأوضاع في العراق. ما لم ينشر حينها أن من أعد التقرير هو المكتب الذي أسسه فرناندز في بغداد. لا أحسب أن تصريحاته على الجزيرة تختلف كثيرا عما نشرته الجارديان.
عندما قابلته في واشنطن قبل أربعة أشهر سألته متى يصبح سفيرا، فأوضح لي أن المنصب من زاوية بيروقراطية غدا قريبا زمنيا، لكنه يحتاج لترشيحات من الخارجية وموافقة من السلطة التشريعية، ولو اعترض شيخ من الشيوخ على ترشيحه يرفض. مازحناه أن تصريحاته بحكم عمله قد تجلب له عداوات تمنع ترشيحه فضحك. لا أدري إن كان تصريحه الأخير قد أثار شيوخ السلطة التشريعية. إن كان كذلك تكون الخارجية الأميركية خسرت سفيرا بأمس الحاجة إليه.
هل تريد التعليق؟