كنت محظوظاً عندما غطيت عودة رجب طيب أردوغان إلى الحياة السياسية عام 2003. حضرت انتخابه في مدينة سرت. كانت ولادة لحظة تاريخية لسياسي ينتقل من السجن إلى القصر. كان قد خرج من السجن، وأخَر الحظر من العمل السياسي دخوله قصر رئاسة الوزراء، الموقع التنفيذي الأهم في تركيا قبل التعديلات الدستورية التي أجراها. ما لا يقل تاريخية عن أخلاقية الحزب الجديد الذي اكتسح الحياة السياسية التركية، بطيب خاطر، يتراجع رئيس الوزراء عبدالله غول وزيرا للخارجية، تاركا المنصب لرفيق نضاله.
أيامها، كنت سعيدا بالتجربة التي أضرّت بمصالحي الشخصية. كانت “الجزيرة” تحول لي بالدولار الذي كان يتراجع لصالح الليرة. حقيقة كنت سعيدا بخسارتي اليومية! النجاح الاقتصادي المبني على النزاهة والشفافية كان العمود الفقري لاكتساح الحياة السياسية التركية التي نخرها الفساد. شاهد الأتراك جيلا من السياسيين الشباب يجسّدون قيم الإسلام الحقيقية في الجدية والعمل والنزاهة. كنت أشعر، في عملي الصحافي، بدور رسالي للعالم العربي، الإسلام والديمقراطية من الممكن أن يعملا معا. كان العالم العربي والإسلامي يعيش مرحلة تراجع ديمقراطي ممتدة توّجت بتفجيرات “11 سبتمبر”. كانت تركيا إجابة لنا وللعالم بأننا شعوب قادرة على الانتخاب وتداول السلطة والتغيير السلمي، فالذين فجروا الأبراج، سواء من السعودية أو مصر أو الإمارات، لم يسبق لهم أن انتخبوا أو عرفوا التغيير السلمي.
لا أخفي عدم موضوعيتي وانحيازي لتلك التجربة التي عنت لكثيرين من أبناء جيلي انتصارا لنا ضد الاستبداد والعسكرة والفساد والتبعية للغرب. ومع كل انتصارٍ، يحققه حزب العدالة والتنمية كانت يتعزّز الانحياز. ومع كل إخفاقٍ، كانت تتعزز المخاوف ليس على شخص أردوغان، وإنما على المشروع والقيم التي آمنا بها، فالشاب الذي ذاق مرارة السجن وتسلط العسكر يعرف أيضا تسلط الأب والقائد المحب، وهو وفريقه من تصدّيا لنجم الدين أربكان، أبي الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، عندما رأوا في سلطويته عائقا يحول دون تقدّم الحزب، فانشقوا عنه وأخذوا زمام المبادرة.
الانتصارات والإنجازات حوَلت أردوغان إلى زعيم سلطوي لا يتقبل المعارضة، لا في داخل
“على أردوغان أن يختار بين الكبار المؤمنين بالمشروع الكبير وطبقة الفاسدين المؤمنين بمشاريعهم الصغيرة” |
حزبه ولا خارجه. وبدلا من أن يقلل إفشال المحاولة الانقلابية سلوكه السلطوي عزّزه وزاد من انفراده بالقيادة. مع أن كل قيادات الحزب التي أقصاها، كأحمد داود أوغلو وعبدالله غول، وقفوا معه منذ اللحظة الأولى لمحاولة الانقلاب في يوليو/ تموز 2016، والأهم هو الشارع الذي انتفض ضد الانقلاب، وتمكن الشباب، بأجسادهم الغضة، من إيقاف جنازير الدبابات. الانقلاب جريمة بشعة، لكن ذلك ليس مبرّرا للتوسع في الاعتقالات، وتكميم أفواه الصحافيين. توجد قلة مجرمة تورّطت في الانقلاب، لكن تيار فتح الله غولن جزء من الشعب التركي، وقدم خدماتٍ كبرى استفادت منها شرائح واسعة من الأتراك، ولا يجوز استئصالهم ومحاربتهم بسبب جريمةٍ ارتكبتها قيادتهم. الذي أفشل الانقلاب هو الإعلام الحر وجماهير الأحرار، وعندما تقرأ ترتيب تركيا في حرية الصحافة تصدم في تراجعها وتخشى من انزلاقها إلى نموذج بوتين في روسيا.
عندما زرت تركيا قبل نصف عام، وقت جريمة اغتيال جمال خاشقجي، سمعت همسا وثّقته في تغريداتٍ، يتلخص بأن الحزب يواجه وضعا صعبا في الانتخابات المقبلة، وأن وضع الحزب قد تراجع في صفوف الشباب، فالجيل الجديد لم يعرف غير أردوغان الحاكم، ولم يعرفه مناضلا نشأ في أحياء الفقر. وكأي حاكمٍ بسلطةٍ مطلقة، يحاط بمجموعة من الفاسدين الذين ينهبون البلاد في ظل الولاء للزعيم ومواجهة الأعداء في الداخل والخارج. تحول الهمس بعد الانتخابات البلدية إلى صرخة تحذيرٍ جسدتها رسالة القيادي التاريخي في الحزب، وعقله الاستراتيجي، أحمد دواد أوغلو، التي قدمت تشخيصا مؤلما وعلاجا صعبا في آن.
يتناول داود أوغلو الطبقة الفاسدة التي تراكمت حول أردوغان في رسالته “لا يمكن التضحية ببلدنا وحزبنا الذي تأسس بدموع شعبنا، وجهوده، وأفكاره ومشاعره، في سبيل فئة وقعت أسيرة لأطماعها الشخصية وباتت تتبع مصالحها الذاتية”. و”يلاحظ حدوث ضيق كبير جدًا كذلك في شبكة الاندماج والعلاقات الاجتماعية التي كانت تضع حزبنا في المرتبة الأولى في عموم تركيا. تظهر نتائج الانتخابات الأخيرة أننا حتى مع “تحالف الشعب”، ينحصر نشاطنا السياسي في وسط الأناضول والبحر الأسود مبتعدة عن الأجزاء الساحلية”.
تحدث داود أوغلو بنقد مهذب غير صريح “قد نسي بعضهم أن العمل السياسي وقيادة البلاد
“الانتصارات والإنجازات حوَلت أردوغان إلى زعيم سلطوي لا يتقبل المعارضة” |
منوطة بشخص من يتولى القيادة دون تدخل من عائلته أو الدائرة المحيطة به في صنع القرار. كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتجييش من يروجون من خلالها الافتراءات، وتشويه أي منافس على الساحة، ومحو اعتبار مَن كانوا رفاق كفاح في مسيرة الحزب، تعدّ بمثابة انعدام الوفاء لمن بذلوا الكثير من أجل نجاح الحزب”. الشباب التركي بخاصة، والأتراك بعامة، لا يسرّهم نموذج صهره البيرق، ومن الغباء نشر صوره مع جاريد كوشنر، صهر ترامب، الشخصية التي تقف وراء مصيبة صفقة القرن وبيع القدس. الأتراك بعامة، والشباب بخاصة، دقوا جرس الإنذار لأردوغان في الانتخابات البلدية. وهو يواجه أزمة اقتصادية صعبة، لأسبابٍ منها الفساد وسوء الإدارة، وتلك الأزمة لا يواجهها بالبيرق وفريقه الحالي، وهو يعلم، أكثر من غيره، من الذين يستطيعون حماية المسيرة واستكمالها من بعده. ولا شك أن أحمد داود أوغلو العقل الاستراتيجي الذي اعتمد عليه في مسيرة الحزب قدّم له خدمة كبرى في الرسالة التي كاشف فيها الرأي العام، وهي رسالةٌ تصفه بالرئيس والقائد، وحريصة على المشروع الكبير، لا المشاريع الخاصة الصغيرة.
على أردوغان أن يختار بين الكبار المؤمنين بالمشروع الكبير وطبقة الفاسدين المؤمنين بمشاريعهم الصغيرة. ولا يزال في الوقت متسع، قبل انتهاء ولايته الأخيرة، وحسن الختام. سأكون سعيدا عندما أشاهد وداعا يليق بأردوغان في نهاية ولايته، تماما كما شاهدت في استقباله. ما يدعو إلى التفاؤل أنه يتمكّن عادة من النجاة في اللحظة الأخيرة، ليس نجاة لشخص، وإنما للمشروع الذي نخشى عليه.
هل تريد التعليق؟