ظل التعليم العام في الأردن وسيلة للتقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وأداة صهر وطني. ومن يحلل تركيبة الحكومات الأردنية تاريخيا من الرئيس إلى الفريق الوزاري يلاحظ أن جلها تقدم بفعل التعليم والكفاءة الوظيفية، أما البعد السياسي فقد كان لاحقا أكثر منه سابقا، وأحيانا يغيب تماما.
في المستقبل لا يبدو أن التعليم سيظل يمارس دوره التاريخي. سائق طفيلي في محمية ضانا الطبيعية لخص حال التعليم اليوم، ودوره في صياغة المستقبل. سأله مدير المحمية بمن هو منشغل فأجاب بـ “وزراء عيالنا” ! العبارة أعمق من روح دعابة عند السائق. فهي تعني طلاب مدارس عمان ذوات الخمس نجوم. وهم سيكونون بفضل تعليمهم ووضعهم الاجتماعي وزراء على عيال لن يمكنهم تعليمهم العام من تجاوز بيئاتهم الفقيرة. كما كانت الحال مع آبائهم.
والأسوأ من ذلك أن التعليم صار أداة شقاق لا أداة صهر. في عمان لم يكن ثمة فرق بين خريحي كلية الحسين الحكومية ومدرسة الفرير. يلتقي خريجو المدرستين في الجامعة الأردنية يتحدثون بلغة عربية وبآمال وهموم متقاربة. اليوم تجد أشتات مجتمعات في مدارس يتخرج منها طلاب يزدرون ذواتهم. وآخرون تورمت ذواتهم بحيث لا يرون في العالم الآخر غير عدو متآمر.
أي ازدراء للذات أعمق من احتجاج أولياء الأمور في مدرسة خاصة على زيادة حصص اللغة العربية بعد أن لاحظت المدرسة ضعف طلابها بها. برأي الآباء المستشرقين فإن لا حاجة للغة العربية! في المقابل يحار آباء آخرون في إيجاد معلمي لغة عربية خصوصين لإيصال اللغة بشكل إبداعي لأبنائهم بحيث تكون لغة شعر وموسيقى وأحلام، لا مجرد لغة تخاطب مع سائق المحمية.
يضيق بعض الناس في تقبل المجتمع كما هو، ويفكرون بجدية في الهجرة إلى الغرب لدوافع ثقافية قبل أن تكون اقتصادية. تفهم خيارات هؤلاء باعتبار أن البلد بحضارتها وثقافتها محطة عابرة لمستقر موعود. ما لا يفهم أن يصر بعض آخر على أن يبقى ويكون أبناؤه “وزراء” وهم يزدرون الناس الذين يتوزورن عليهم أو منقطعو الصلة بهم في أحسن الأحوال.
ليست نزعة شوفينية، بل هي الحد الأدنى والطبيعي من احترام الذات. وجريمة بحق الأولاد أن ينشأوا على القطيعة مع بيئتهم الطبيعية. والتكيف مع البيئة هي أحد مقومات الحياة الأساسية. والتعليم الخمس نجوم بوضعه الحالي بقدر ما يفتح فرصا للاندماج في العالم الحديث والالتحاق في الجامعات الغربية يقطع الصلة بالواقع ويجعل حال الطلبة كحال الرجل الأبيض مع الهندي الأحمر.
تتنصل الدولة من واجباتها وتقول إن التعليم خاص ومفتوح، وستجد نفسها أمام جيل غاضب محبط يسعى إلى تجاوز واقعه بالقوة بعد أن فقد التعليم كثيرا من دوره السابق في الترقية الاجتماعية والاقتصادية. ومن يعتقدون أنهم بعزلهم أبناءهم عن مجتمعاتهم وربطهم بالغرب يحمون أبناءهم يفعلون العكس، ويعرضون المجتمع كله للتمزق والشقاق.
عنونت نيوزويك في ظل الأزمة الاقتصادية “كلنا اشتراكيون”، أمام حال التعليم اليوم تعود الاشتراكية والشمولية في التعليم حلما. بأي حق يحرم الذكي من التعليم المتقدم ويعطى “محو الأمية” بسبب فراغ جيبة أبيه ويتقدم محدود الذكاء بفضل جيبة أبيه القادر على شراء التعليم المتقدم بوصفه “سلعة”.
التعليم وخصوصا المدرسي يجب أن يتاح للجميع بشكل متقارب، وعلى الدولة واجب تجاه الأذكياء الفقراء أو متوسطي الدخل، وهذا ظل سمة للدولة الأردنية الحديثة. والمدارس الخاصة لديها متطلبات ثقافية وطنية وعلى رأسها اللغة يجب أن تفي بها، وإلا أصبحت مدارس جاليات في أوطانها. إلا أنها جاليات “وزراء عيالنا”.
هل تريد التعليق؟