مقالات

وفي المغرب أيضا تتراجع السياسة وتتقدم الصحافة

سدت الصحافة الأردنية المستقلة ثغرة ضعف السياسة في الأردن، وتجلى ذلك في النصف الأخير من السنة إذ غدا صحافيون رأس حربة في التصدي للقضايا العامة يتخلف عن ركابهم ساسة نكوصا وعجزا، رهبا ورغبا.

وفي جلسة النواب الشهيرة حول بيع الأراضي توجع نائب كيف لا يجد جوابا عما يسأله الناس في مناسبات الترح والفرح فيما يقرؤون في الصحافة ويشاهدون. مع أن أبسط حقوق النائب أن يطرح سؤالا، فمناقشة فاستجوابا فطرح ثقة. أما الصحافة فتقول كلمتها وتمشي.   

في المغرب يتكرر المشهد، مع أن الحياة السياسية فيه أكثر تطورا. عندما زرته قبل عامين كانت البلاد تتهيأ لانتخابات نيابية يحقق فيها حزب العدالة والتنمية الإسلامي الأكثرية بحسب استطلاعات الرأي مع شرط بسيط “إن كانت نزيهة”. في حينها لم يطش سعد العثماني، أمين عام الحزب على شبر ماء، وقال عندما سألته عن الاستطلاعات إنه غير واهم وإن الحزب يتعامل بعقلانية مع كل الاحتمالات فهو مستعد لتشكيل الحكومة، أو المشاركة، أو البقاء في صفوف المعارضة.

لم يشكل العثماني الحكومة، وخسر زعامة الحركة التي قادها لأكثر من عقد. وهي الحركة التي تأسى بها الإسلاميون الأتراك وأخذوا اسمها قبل أن يحكموا. لم ينتقل إلى صفوف المعارضة في حزبه الذي اختار بن كيران الأكثر تشددا والأعلى صوتا. بل ظل وجه الحزب والرجل الثاني فيه.

بنفس حيويته قبل عامين أجابني العثماني “الأمور تتجه إلى الأسوأ فأفضل انتخابات جرت عام 2002، وما تلاها أسوأ منها والانتخابات البلدية العام المقبل يتوقع أن تكون الأسوأ”. ذلك التشخيص القاسي تشاركه فيه كثير من النخب. إذ يرون أنّ الدولة تدخلت بالنفوذ والمال السياسي لصالح محاسيبها، واختارت لغايات الشكل معارضا سابقا وزيرا أول يزداد الحديث عن قرب أفوله.

مقابل ذلك تتقدم الصحافة قوة ضاربة مؤثرة تبث الحياة في ما خوى من سياسة. على رأسها تقف صحيفة المساء اليومية، التي أسسها صحافيون شباب مستقلون، وجدوا ممولا مستقلا ونجحت ماليا ومهنيا. شعار الصحيفة “نغطي الخبر ولا نغطي عليه”. الممول هو المخرج العالمي محمد العسلي الذي أخرج أروع الأفلام الإيطالية. جمع ملايينه وقرر أن يعود لبلاده ليؤسس مدرسة للسينما واستوديوهات بمستوى عالمي. في وقت تشهد البلاد هجرة معاكسة إلى أوروبا من الفقراء وأصحاب الملايين على السواء.

بألم وفخر يتحدث العسلي عن تجربته. فالإيطاليون دعموا مدرسته للسينما بنحو ثلاثة ملايين دولار. في المقابل تتهيأ صحيفته لتلقي حكما بتغريمها أعلى غرامة عرفتها الصحافة العربية بتاريخها تصل إلى أكثر من 700 ألف دولار. ومنع من شراء مطبعة وبدأ التحرش باستوديوهاته السينمائية وتعرض لاستجواب حول ثروته التي جمعها من أعماله العالمية. لا ييأس العسلي، ويقول “يكفي أن والدي فخور بما صنعته”، والناس لم تتخل عن مشروعه، فقد أعلن مواطن عن استعداده لدفع مليوني درهم من أصل ستة ملايين أصل الغرامة.

يمثل العسلي بارقة أمل ليس للمغرب فحسب، فهو نموذج للعربي المنفتح على الآخر المنتمي لأمته. وهو ما حقق له مكانته في إيطاليا، وسبب له المتاعب في المغرب. قدم للسينما الإيطالية أفلاما نقدية للعلاقة بين الغرب والشرق، ونجحت أولاً لأنها استكملت شروطها الفنية وثانيا لأنها قالت ما لا يقال . يتحدث واحد من أبرز أفلامه عن الصحفية الإيطالية إيلاريا آلبي التي كشفت في التسعينات فضيحة دفن مواد مشعة في الصومال واتهمت المخابرات الإيطالية بقتلها. وفي فيلم “البند الثاني”  ينتقد موقف الإيطاليين من تعدد الزوجات عند المسلمين في الوقت الذي ينص البند الثاني من دستورهم على حق كل مقيم في العيش وفق دينه ومعتقداته وثقافته.

عاد بريشته إلى الوطن راسما أجمل اللوحات في فيلم “الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء”، وهو منحاز إلى الفقراء والمحرومين في بلده والذين لا يتمكنون من تحقيق أحلامهم الصغيرة. وفاز بجوائز مهرجان قرطاج والاسكندرية وشيكاغو وغيرها.

قلت له “الناس تنتقل من المقروء إلى المرئي، فكيف تهاجر هجرة معاكسة؟” قال إنه مجرد ممول لصحيفة المساء، ويتعامل معها قضية وطنية، وهمه الأساسي لا يزال السينما. رفض تأجير استوديوهاته للفيلم العالمي “مملكة السماء” لأنه اعتبر النص لا يُنصف صلاح الدين الأيوبي. وهو يستعد الآن لإنتاج فيلم عن احتلال العراق. وطموحه أن يتمكن الشباب العربي من تصوير أحلامه وخيباته لا أن تصور له وفق رؤية غربية مسبقة. يدور آخر أفلامه في مقهى أنترنت يشكل للشباب مساحة للهرب إلى الغرب، حتى المتزوج يريد مصادقة غربية ليتمكن هو وزوجته من الهجرة.

الدنيا بخير عندما توجد صحيفة مثل “المساء” ومخرج مثل محمد العسلي.

هل تريد التعليق؟