قبل أسبوعين، كشف المصدر في فضيحة ووترغيت عن نفسه، بعد أن تكتم عليه صحفيا واشنطن بوست، بوب وودوارد وكارل بيرنستاين، لأكثر من ثلاثين عاما. تبين أن المصدر هو مارك فيلت، الرجل الثاني في مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)، الذي تقاطعت مصالحه الشخصية في الانتقام من الرئيس نيكسون، مع المصالح الوطنية العليا في حماية خصوصيات الناس التي انتهكها الرئيس، من خلال التنصت على خصومه من الحزب الديموقراطي.
الصحافة المستقلة تمكنت من إسقاط الرئيس، ليس هذا هو الدرس الوحيد من الفضيحة. ما هو أهم، أن المجتمع الأميركي تمكن من الدفاع عن خصوصياته التي حاول رئيس انتهاكها، بالقدر الذي تمكنت الصحافة من حماية مصدرها، الذي ظل يعرف باسم “الحنجرة العميقة”.
من المؤكد أن العالم العربي لم يتعلم الدروس السابقة، لكن ما هو أسوأ أن أميركا بدأت بالتراجع عما تعلمه الناس منها. فتحت عناوين “مكافحة الإرهاب”، انتهكت خصوصيات مسلمي أميركا، وتجسست الدولة على هواتفهم وملفاتهم وبريدهم، بذريعة مقاومة الإرهاب، والمصادر غدت معرضة للانكشاف تحت الضغط السياسي، كما حصل مع الديبلوماسية الأميركية وزوجها، اللذين سربا خبرا يتعلق بأسلحة الدمار الشامل الموهومة. ومع ذلك، يسجل للصحافة الأميركية، حتى بعد هذا التراجع، أنها كشفت عن فضائح أبو غريب والسجون السرية والإساءة للقرآن الكريم.
في “ووترغيت”، كشف المجتمع الأميركي عن قدرته على حماية نفسه من سطوة السلطة. فالتنصت جريمة دفع الرئيس موقعه عقوبة على اقترافها. وهذا يذكر بفضائح التنصت في العالم العربي. ففي لبنان، عندما أثيرت قضية التنصت على الهواتف في عهد حكومة الحريري، فاجأ الرئيس النواب عندما قال: أنا لا أضمن هاتفي من التنصت! كانت غرفة التنصت في الأمن العام اللبناني متخصصة في انتهاك خصوصيات الناس واستخدامها سياسيا، ولم يتمكن رئيس وزراء من لجم الجهاز الأمني المرتبط بسورية آنذاك، ولم يتمكن المجتمع اللبناني من الإطاحة بمدير الأمن العام، ومسؤول غرفة التنصت، إلا عقب اغتيال الحريري… هذا في لبنان، وحال العالم العربي ليس أفضل بكثير، إن لم يكن أسوأ!
درس آخر لا يقل أهمية عما سبق: هل ما قام به الرجل الثاني في الـ”أف بي آي”، من تسريب لمعلومات ضد رئيس الولايات المتحدة، كان خيانة لوظيفته، أم أنه خدم وطنه؟
فيلت كان صديقا لوودوارد، وفي الوقت ذاته كان متضررا من قرار الرئيس عدم تعيينه مديرا لـ”أف بي آي”، لكن الإجابة قد تكون في سؤال آخر: لو لم يرتكب الرئيس خيانة أكبر لوظيفته، هل كان سيرتكب فيلت خيانة صغيرة لوظيفته؟
في الفضيحة، يبدو الصحافي أنظف الأطراف وأكثرها صدقية. فهو الوحيد الذي لم يرتكب خيانة، صغيرة أم كبيرة، بل كان يبحث عن الحقيقة، وعندما وصل إليها قدمها للقارئ. وتبدو الصحافة أقوى السلطات، سواء البيت الأبيض، في نظام رئاسي يفوض السلطات التنفيذية جميعا للرئيس، أم مكتب التحقيقات الفيدرالي، المحصن من خلال موافقة السلطة التشريعية على تعيين مديره، وحتى أقوى من الكونجرس.. فالمسؤول الأمني لم يشتك للكونجرس وإنما اشتكى للصحافة.
فالصحافي الشاب بوب وودوارد لم يعمل عند فيلت، بل عمل عند قرائه… كان ثمة مصلحة مشتركة بين الطرفين، استغلها الصحافي جيدا. هنا يمكن مقارنة علاقة الصداقة التي ربطت الاثنين بعلاقات الاستخدام، التي تحول كثيرا من صحافيي العالم الثالث إلى مخبرين. فوودوارد كان شابا يعمل في البحرية الأميركية، التقى مصادفة بفيلت، المسؤول الكبير في “أف بي آي”، والذي أعطاه رقم مكتبه المباشر. وعندما عمل وودوارد في الصحافة، لم يبادر بالتطوع لتقديم معلومات، بل بادر إلى الاتصال في سبيل الحصول على معلومات، وهو ما نجح فيه.
الصحافة في العالم، وفي أميركا أيضا، بحاجة إلى فضيحة جديدة من وزن ووترغيت. فالمؤسف أن وودوارد تحول إلى صديق للرؤساء، الذين استغلوا نهمه للمعلومات بعد نجاحه في سابقة تاريخية “صحافي يسقط رئيسا”.. فهل انعكست العبارة لتصبح “رئيسا يسقط صحافيا”، بعد أكثر من ثلاثين عاما؟
هل تريد التعليق؟